دائماً كنت معجباً بعناوين الكاتب عبده جبير، فأنا أشعر أن عنوان أي عمل أدبي إنما يشكل العتبة الأولى لدخول عوالمه، وأنه يجب أن يظهر بقدر ما يستر، ليشكل، في نهاية المطاف، إضافة موحية ودالة على العمل، لا سارقة لمحتواه، وفاضحة لبواطنه.

Ad

«فارس على حصان من خشب» 1978، «تحريك القلب»1981، «سبيل الشخص» 1982، «عطلة رضوان» 1995، «الوداع تاج من العشب» 1997، «مواعيد الذهاب إلى آخر الزمان» 2004، هذه عناوين روايات ومجاميع قصصية لعبده جبير، ومن خلال تواريخها تظهر بشكل جلي انتماء الكاتب جبير لجيل من الكتّاب العرب، الذين بات يُطلق عليهم «كتّاب الستينيات»، بالنظر إلى معايشتهم وانتمائهم إلى أفكار وشعارات وعوالم تلك الفترة الغنية بأحداثها السياسية والاجتماعية، ومناخات كتاباتهم التي نطقت بذلك.

في مجموعته القصصية الأخيرة «رجل العواطف يمشي على الحافة» الصادرة عن دار «ملامح» للنشر، في طبعتها الأولى 2009، يتناول عبده جبير في أربع وعشرين قصة قصيرة الحياة الاجتماعية في القاهرة، باستثناء قصة واحدة تدور أحداثها في الكويت «معلم الموسيقى». الحيوات التي يتناولها جبير في قصصه، حيوات حية ونابضة وصارخة في واقعيتها، وهو إذ يتناول هذا الواقع اليومي المعاصر بغناه وتنوعه وأوجاعه وخذلانه، وبتلك الواقعية الواضحة، فإنه لا يغفل الفنتازية والحلم في قصصه، بما يجعل تلك القصص تخلص لجذرها الواقعي، مثلما تبرع في لبس سحرها الفني الخاص.

أغلب قصص المجموعة جاءت بلغة سهلة وحميمة ومؤثرة، على لسان الراوي العليم، بصيغة ضمير الغائب، وقد يشكل هذا مأخذاً عليها، لكنها تنوعت بشكل لافت في مواضيعها، وفي شخوصها، وفي المواقف الدالة التي اختارها المؤلف لقصصه.

عبده جبير في كل ما كتب، وبقدر ما كان ملتزماً بأفكار إنسانية طليعية، وبإيمانه بفعل السحر الذي يقترن بالفن، وقدرته على محاكاة وعي القارئ، فإنه كان على الدوام منطلقاً في تجريبه، سائراً في مشروع كتابة، روائية أو قصصية، فاضحة وكاشفة لممارسات اجتماعية يومية دالة، نمرّ بها أجمع نعايش وقعها. لكنه يتناولها بمكر فني، وعمق إنساني يبعث على الدهشة.

إن مجموعة «رجل العواطف يمشي على الحافة» تشكل قراءة واقعية فنية غنية ودالة في حال المجتمع المصري القائم حالياً، وهي تقدم عوالمها المتنوعة لتظهر المتناقضات والأوجاع التي يعانيها مختلف أفراد هذا المجتمع، بمختلف انتماءاتهم الطبقية، لتؤول في أغلب خواتمها إلى الخيبة والانكسار والتساؤل المرير عن معنى اللحظة.

بات يُقال الكثير عن تسيّد الرواية باقي الأجناس الأدبية، لكننا حين نقرأ عملاً قصصياً متقناً، ينطوي على سحر الفن والموهبة، مشيراً إلى الواقع بعمق لافت، فإن تلك المقولة سرعان ما تتبخر، وكأن الحال يقول: ليست الرواية أو القصة القصيرة هي التي تتسيد، لكنه الفن المبدع والواعي، الفن القادر على التقاط اللحظة الإنسانية الواقعية، وإعادة فرزها فناً ينبض بالحياة، مشيراً إلى الخلل في الواقع، طارحاً البديل بحياة أجمل، أو ناطقاً بسؤال يبقى عالقاً في ذاكرة القارئ وربما روحه.