أشهد أنني استمتعت ولا أزال بحياتي. عشتها ولا أزال بالطول والعرض. بصخب وصعلكة. برقص وغناء ونساء. بأحزان وآلام وعناء. لا يهمني كيف وأين أنام. إن وجدتُ جناحاً في فندق فاخر نافست أهل الكهف، وإن توفّر لي ظلّ شجرة ارتفع شخيري يملأ الفضاء الفاضي والخلاء الخالي.

Ad

أنا والدنيا يا صاحبي كهاتين، السبّابة والوسطى، عاشقان متعانقان متلاصقان، تحبني وأحبها ويحب ناقتها بعيري، ويجوبُ صفحتَها يراعي. وهي (أي الدنيا) تارة تبدو لي على شكل امرأة باسقة باهية ثمارها دانية وشفاهها حامية، وتارة تبدو على شكل سيجارة وكأس من النسكافيه، أو أغنية على العود في سهرة طرب، أو لحظة غضب، أو صديق صدوق، قلبه لأسراري صندوق، أو كلها مجتمعة، امرأة باسقة، وسيجارة، ونسكافيه، وأغنية في سهرة طرب، ولحظة غضب، وصديق صدوق.

أبعدَ كل هذه المتعة، وكل هذه السعسعة، تطلب مني أن أرتدي ثياب المحافظين وأترشح للانتخابات، وتتعهد لي بالاكتساح؟ ألا تستحي من نفسك ومن الناس ومني؟ أتغش الناس؟ أتطلب مني أن أستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ ألا تتذكر أنني أقسمت ألّا أقبل عضوية البرلمان حتى لو قُدّمت لي على بشت من ذهب مادامت عقليات المجتمع لم تتغير؟ هل تريد أن تشاهد بطاقتي المدنية لتتأكد أنني لست إسماعيل الشطي لتغريني بالأرائك والإستبرق؟ تبّ لسانك يا صديقي الحقيقي.

يا عمي أنا وين وعضوية البرلمان وين؟ دع عنك كل هذا وقم بنا إلى مكتب السفريات نختار دولة تحتمل جنوننا. ما رأيك في تركيا، بلد أتاتورك العظيم؟ وبالمناسبة، أتاتورك ليس من "عيال بطنها"، وكادت تُسقط عضويته من البرلمان الذي هو رئيسه لهذا السبب! فهو من أتراك اليونان، أي أنه بالعربي المحط، على رأي المرحوم محمد مستجاب، "مضروب جنبه". وسبق له أن طُرِدَ من الجيش ونُزِعَت عنه رتبته، لكنهم استدعوه لقيادة "كتيبة التوغل" في الحرب ضد الإنكليز في مدينة "عكّا"، وعندما ثار الضباط على هذا القرار، قال لهم قائدهم: "إنها لحظة الصدق، لحظة كمال (يقصد أتاتورك)".

شوف يا صاحبي، سأسولف لك سالفة عن أتاتورك، وأنت بكيفك، إن شئت احتفظتَ بها في قلبك، وإن شئت رميتها في حاوية النسيان... الأتراك كما تعلم خليط من الأصول والطوائف، أتراك من أصل يوناني، وقبارصة، وعراقيون، وإيرانيون، وأتراك من تركيا (عيال بطنها)، وآخرون، وكان أن ثارت بينهم النزاعات العرقية، وارتفع صوت العِرْق والأصل، فاستدعى كمال أتاتورك زعماء الأعراق والطوائف، وما إن أخذوا مقاعدهم في القاعة حتى دخل عليهم متأبطاً مسدسه، فجلس على كرسيه، وبدأ الاجتماع الأقصر في التاريخ عندما سألهم وهو يتفقد مسدسه على ضوء الشمس: "لقد بلغني أن الأتراك يتفتتون، وأنكم تقودونهم إلى مثل هذا، فهل تختبرون رجولتي؟ حسناً، افعلوها مرة أخرى وسأصلبكم على أعمدة أنقرة. انهضوا، انتهى الاجتماع". عندئذٍ، خرج المجتمعون من القاعة، فقال أحدهم: "هذا الزنديق لا يكذب أبداً"، فهزّ الآخرون رؤوسهم تصديقاً لكلامه... وقال المؤرخون الذين تحدثوا عن سيرته، وما أكثرهم: "انقطعت النزاعات والنزعات العرقية إلى الأبد في تركيا بجملتين قالهما أتاتورك".

هاه ماذا قلت؟ صدقني لن تندم عندما تزور العظيم في بيته في أنقرة. لكنك ستندم كثيراً عندما تقارنه بحكومتنا التي لا تجرؤ على صلب "العنصريين والطائفيين" على أعمدة القضاء.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة