أخَّر رماد بركان أيسلندا معركة الانتخابات البريطانية، التي ستجرى في مايو المقبل، ستة أيام انشغل خلالها البريطانيون، ناخبين ومرشحين، بالحركة الجوية وبأوضاع البريطانيين الذين تقطَّعت بهم السبل في كل أرجاء الكرة الأرضية، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وبالخسائر الفادحة التي خلَّفتها هذه الكارثة الطبيعية التي قُدِّرت بالنسبة إلى شركات الطيران بنحو مليار ونصف المليار دولار، هذا عدا عن خسائر الدول والناس العاديين والمجالات التجارية.

Ad

بعد انتهاء هذه الغمامة سارع فرسان الأحزاب الثلاثة، حزب العمال وحزب المحافظين وحزب الليبراليين الديمقراطيين، وهم غوردن براون وديفيد كامرون ونيك كليغ، إلى شاشات التلفزيونات، وكانت مبارزة "عكاظية" حامية، سلاحها الكلام، وقد كسبها الثالث، أي كليغ الذي تحول خلال ساعات بفعل الإعلام وسطوته من إنسان مغمور تكاد أمه لا تحفظ اسمه إلى نجم ساطع في سماء بريطانيا وأوروبا والعالم بأسره.

كل شيء قيل في هذه المناظرة وفي المناظرات التي تلتها، من استقبال بابا الفاتيكان في لندن، إلى السلاح النووي، إلى الحرب في العراق وأفغانستان، إلى العلاقات بأوروبا والولايات المتحدة، وبالطبع إلى الاقتصاد والمهاجرين من العالم الثالث، وإلى التعليم والصحة، والشيء الوحيد الذي لم يحظ بالاهتمام المفترض هو القضية الفلسطينية والوضع في الشرق الأوسط، وذلك رغم أن بريطانيا العظمى هي التي خلقت هذه المشكلة التي يبدو أن نهايتها بعيدة، فمنها صدر وعد بلفور المشؤوم، وفي أحد فنادق لندن وُضعت اتفاقيات سايكس بيكو، وفوق كل هذا فإن الإمبراطورية، التي كانت قبل أن تُصاب بداء الانكماش لا تغيب عن أملاكها الشمس، قد انتدبت نفسها كنتيجة للحرب العالمية الأولى على فلسطين، وفي رحم ذلك الانتداب وُلدت الدولة الإسرائيلية التي تمدُّ الآن لسانها في وجه العالم كله.

لا شك في أن تحولاً هائلاً وحقيقياً قد طرأ على توجهات الشعب البريطاني تجاه القضية الفلسطينية خلال الأعوام الأخيرة، وهذا حدث مثله وأكثر في أوروبا كلها وفي العالم الممتد من اليابان شرقاً حتى كندا في الغرب، لكن اهتمامات بريطانيا كدولة لا تزال دون مستوى مسؤوليتها التاريخية، ودون مستوى ما سببه احتضانها للحركة الصهيونية وحاييم وايزمان من مآس للشعب الفلسطيني ومن استنزاف سياسي واقتصادي وعسكري لكل الدول العربية القريبة منها والبعيدة.

في كل الأحوال يبقى أنه لابد من القول إن ما يحز في نفس كل عربي يتابع هذه المعركة الديمقراطية في بريطانيا، سواء عن قُرب أو عن بعد، هو أن هناك هوة واسعة بين واقعنا العربي وواقع هذه الدول، ومن بينها دول أوروبا الشرقية التي كانت قبل عشرين عاماً فقط لا تعرف صناديق الاقتراع، وتُحكم بالحديد والنار، فنحن لا نزال نعيش الحالة الآسيوية في أبشع صورها، وهذا العالم، ومن بينه أجزاء من إفريقيا وأميركا اللاتينية، انتقل إلى مرحلة ما قبل نهاية التاريخ!