سنحت لي الفرصة حضور منتدى الإعلام العربي الذي عقد في دبي، والتقيت هناك، بطبيعة الحال، بأغلب الأسماء اللامعة في عالم الصحافة العربية، وجلست مع كثير من أصحابها، واستمعت لهم وحادثتهم وتناقشت معهم، وبالطبع كان فيهم المتميزون العميقون الجميلون، وفيهم من هم أقل من ذلك بكثير، إلا أن المفارقة هي أن انبهاري وتأثري الأكبرين كانا في مكان آخر بعيد تماما عن المؤتمر وشخوصه ولقاءاته، وبالضبط في مدة لم تتجاوز دقائق معدودة قضيتها مع سائق تاكسي حملني في واحدة من تنقلاتي.

Ad

شدني سائق «التاكسي» الباكستاني، والذي اسمه الحسين بن علي، منذ الوهلة الأولى حين حياني بلغة إنكليزية مميزة، وسألني عما إذا كنت سعيدا هذا اليوم! وحين يسألني شخص ما عن «السعادة»، متجاوزا نمطية السؤال المكرر عن الصحة، أضع احتمالا ابتدائيا بأن هذا الإنسان قد يكون لديه شيء مختلف، فأجبته لأختبره: أنا سعيد جدا، لأن أهم شيء للمرء في هذه الدنيا أن يدرك أن سعادته بيده، فلا يسمح لأي شيء مما حوله أن يسرقها منه، وإلا صار ريشة في مهب رياح الظروف. أجابني وهو يبتسم بأني مصيب، وأنه يعيش كذلك حالة من السعادة والاستقرار النفسي والسلام مع ما حوله لأنه يدرك مدلول كلمة «التفكر»، الذي جاء في الآية «ويتفكرون في خلق السموات والأرض»، وأكمل ليشرح لي سعادته الأسرية مع زوجته وأبنائه وفرحته الكبرى بابنته الصغيرة فاطمة التي يرى بهجة الدنيا في عينيها.

أثارني اختلاف الرجل، فسألته عن التعليم الذي تلقاه، فأجاب بأنه يحمل شهادة جامعية في الشؤون الدولية بالإضافة إلى شهادة تخصصية ثانية، ومرة أخرى قررت أن أختبره، فسألته هل هذه هي ذاتها العلوم السياسية، فأجابني بأنها مرتبطة بها بشكل من الأشكال، إلا أنها تهتم في المقام الأول بدراسة الظواهر الدولية، والبحث في أسبابها الجذرية، وتحليل نتائجها اللاحقة!

أدهشني الرجل، فقلت له كيف انتهيت مع هذه الشهادة إلى هذه الوظيفة، فقال إنه وجدها من خلال إعلان للتوظيف نشر في باكستان، لأنه لم يجد عملا في بلده، وأنه يحدوه الأمل في أن ينتقل منها إلى أخرى حين تتحسن الظروف، فهو يؤمن بضرورة أن يكون داخل نظام العمال حتى يتمكن من القفز من قطاع إلى قطاع، وألا يبقى خارجه لأن الأمر سيكون حينها صعبا جدا (وهذه عبارته بالضبط)، إلا أنه بعدما وصل إلى دبي منذ عام ونصف، حصلت الأزمة الاقتصادية، مما جعل الأمور أصعب قليلا لكنه واثق من تحسنها، ثم عرج للحديث عن الأزمة الاقتصادية وآثارها في دبي، وجدوى المعالجات التي تتم، وأي القطاعات أكثر تأثرا من غيرها واسترسل في ذلك!

تحت وقع الدهشة المتزايدة، طلبت منه أن يتجول بي في دبي ليريني معالمها، وأنا راغب فقط أن أستمع إليه أكثر، فأخذ يجول، ويصف ما يصادفنا من معالم وأبنية، ولكن كذلك بشكل مختلف، حيث كان يتحدث عن العلامات والفروقات الهندسية والمعمارية بشكل لم أكن لأتخيل أن يصدر عن سائق تاكسي. جرنا الحديث بعدها إلى ذكر الحضارة الهندية، فوصل بي إلى قصة لابنة أحد المهراجات كانت تكتب الشعر، وحاول أن يترجم لي قصيدة من قصائدها، فأنشد يقول: بقطرة من بعد قطرة يكون المحيط، وبحبة رمل من بعد حبة رمل تكون الأرض، وبنبضة حب من بعد نبضة حب يكون الإنسان!

وصلت إلى الفندق الذي كنت أسكن فيه، وترجلت من سيارة «التاكسي»، وأنا أقول لنفسي: يا لها من حياة مثيرة هذه الحياة، تفاجئك بما لا يمكن أن تتخيله في أغرب الأماكن. من يتخيل حكيماً من بلاد الهند يقود «تاكسي»؟!

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة