طالما تساءلت في نفسي عن فحوى الكلام الذي يوجّهه إلى سادتنا أسياد سادتنا، عندما يذهب أولئك لأداء فروض الطاعة، أو عندما يأتي هؤلاء للتذكير بطعم الهراوة. لأننا، في واقع الأورام غير الحميدة المسماة بالتلفزيونات، لا نسمع شيئاً مما يقال على الإطلاق، إذ تتولى الموسيقى الرزينة دور الحاجب الأمين الساتر لفخامة الابتسامات الناعسة، وجلالة الانفراجات المزمومة للشفاه المصمتة. ثم أننا، في كل مرة، نشهد اختراع العجلة مجدداً، عندما تهمس لنا الإذاعات والصحف بالسر الخطير الذي تضمنه اللقاء، فإذا هو أن الإثنين {تباحثا في القضايا ذات الاهتمام المشترك}!

Ad

ما المشترك يا ترى بين الشاطر والمشطور؟!

أجزم بأن أهم قضية مشتركة بينهما هي قضية هذا الكرسي اللعين الذي يطلع من بطن أمه غارقاً بأقوى أنواع الغراء، حتى إذا حكمت الأقدار بجلوس أحد عليه، فإنه لا ينخلع عنه إلا بكماشة عرضها السموات والأرض. ولفرط جودة الغراء، فإنه إذ ينخلع تبقى مؤخّرته لاصقة هناك، مكلفة المصلحين أعواماً من الجهد لفض الاشتباك بينها وبين الكرسي، لإفساح المجال لجلوس مؤخرة طازجة.

ولذلك فإنني، كلما التقى المالك بالوكيل، أسأل نفسي: ماذا قال له؟ أعرف أنه لا يأتي، ولا يستدعي إلا لحصول تقصير، وأن عقوبة التقصير هي الإهانة والتهديد بالخلع، لكنني لا أعرف بالضبط بأي لهجة تقال تلك الإهانة، ولا بأي صيغة يوجه ذلك التهديد.

كنت أخمّن أن الإهانة يجري تغليفها بطبقة من الكاكاو مثلاً، أو أن التهديد يعلب بكبسولة من السكر. إذ لم أكن أتخيّل أن كبراءنا الذين أضلونا يتلقون التأنيب والتعنيف من كبرائهم الذين أذلوهم بالصيغة البدائية والهمجية بنفسها التي يلعنون بها {سنسفيلنا}.

لكن يبدو أن {قضية كبرائنا ذات الاهتمام} عويصة جداً، وأكثر تقعيداً بما لا يقاس من جميع قضايانا نحن (الحجارة) فشتان بين مؤخرة مجردة لم تتذوق طعم الحصير إلا في الاعياد، وبين مؤخرة محلاة بالغراء والمطاط والقطران، أعني، وليغفر الله لي، أن الاهانة ويا للمفارقة تأتي بحجم المكانة... وهذا ما لم أكتشفه إلا متأخّراً.

وإذا كان لي أن أصدر كتاباً حول اكتشافي لحقيقة وطبيعة وضخامة الإهانات الموجهة لكبرائنا، فإن إهداءه سيكون بلا شك لصاحب الفضل في هذا الاكتشاف: الجنرال النووي الذي يزري بأعظم (جنرال الكتريك) الرئيس الباكستاني المستقيل {برويز مشرف} حفظه الله ورعاه وأبقاه نبراساً لتنويرنا.

ففي كتابه الذي صدر بعنوان (على خط النار) ذكر أن نائب وزير الخارجية الأميركي السابق ريتشارد أرميتاج (ترجمته للعربية: ارم التاج) كان اتصل إبان الحرب على طالبان برئيس المخابرات الباكستانية، ليحذّره بكل صفاقة قائلاً: (إذا لم تتعاونوا معنا بجدية فسنفجّر بلادكم ونعيدها الى العصر الحجري)، وذلك بعد تحذير شديد اللهجة من الوزير كولن باول تلقاه الرئيس مشرف نفسه وهو ما لم ينبئنا بطبيعته أو وزنه أو لونه لكنه عندما سئل في مؤتمر صحافي خلال زيارته الأخيرة لأميركا عما إذا كان شعر بالإهانة بسبب صيغة ذلك التحذير، تردّد طويلاً قبل أن يتمتم بصوت نصف مبلوع: (نعم)!

تلك نبذة ليس إلا من أحاديث {القضايا} فاض بها صدر الرئيس المشرف، وربنا وحده الذي يعلم كم تلقى من أحاديث غيرها يمنع الخجل من الإتيان على ذكرها {لعلمكم... بعض الرؤساء يخجلون أحياناً}.

رباه!!

هذا الكلام الأميركي كان موجهاً إلى قادة دولة ضخمة، عدد سكانها يعادل عدد سكان جميع الدول العربية، أي أنه يعادل عدد سكان أميركا نفسها، وفوق ذلك هي دولة تملك القنبلة النووية، وفوقه أيضاً أنها متعاونة إلى أبعد حدّ مع أميركا في حربها ضد الإرهاب، وفوقه أنها اعتقلت ولا تزال تعتقل الآلاف ممّن يعكرون المزاج الأميركي {ولولاها لانفجرت عشرات الطائرات الغربية بعمليات إرهابية منذ وقت ليس ببعيد} وفوق هذا أكثر وأكثر أنها، في هذه الظروف بالذات، حاجة إقليمية لا تعوَّض. فإذا كان مثل هذا الكلام يوجّه إلى قادة مثل هذه الدولة، فكم هي يا ترى كمية الدسم في الكلام الذي يوجه إلى قادة الدول التي نعلم أن بعضها لا قبل له حتى بمقارعة ديك يتيم غير مكتمل النمو... وأحوَل أيضاً؟!

قبل أعوام عدة زار منطقتنا وزير خارجية الكبراء الذين أعادونا إلى العصر الحجري. وبعد ساعة من لقائه بواحد من كبرائنا، وقع كبيرنا ذلك ميتاً!

ومنذ ذلك اليوم وأنا أتساءل مذهولاً: كيف جرى ما جرى؟!

وها أنا بفضل برويز... الذهب الإبريز، عرفت الآن لماذا مات.

يبدو أن {قضيته ذات الاهتمام} كانت من وزن قنبلة باكستان النووية!