بلاغة شف الانحدار...
الاختلاف نعمة من نعم الارتقاء والتطور، والتعددية أصل من أصول التقدم، فالأمم التي تتعدد ثقافاتها، ويختلف أهلها في سبل رقيّها وتطورها غير تلك التي تسير على وتيرة واحدة، تلبس نفس الملابس وتأكل نفس الأكلات وتسكن نفس البيوت، ولا ترى فيها اختلافاً لا في الشكل ولا في المضمون ولا في الطموحات.
لكن الاختلاف يصبح نقمة، وتتحول التعددية إلى وباء أو سلاح فتاك إذا خرجا عن أصولهما، وأول تلك الأصول هو الإبقاء عليهما فضيلة يحترم فيها كل صاحب رأي، صاحب الرأي الآخر، يقارعه بالحجة لا بالتنابز والقذف... ويحكّم العقل والمنطق والأخلاق لا لغة الشتم والسباب.إن أسلوب «الردح»، ولغة السب هما الأسهل لكنهما يعكسان فقراً في الحجة وعجزاً في تحكيم المنطق.نعيد هذه الأبجديات بعد أن شهد مجلس الأمة أمس فصولاً من المواجهات بين عدد من النواب خرجت عن أبسط الأصول، وتجاوزت أدنى أخلاقيات الحوار وضربت بفضيلة الاختلاف عرض الحائط.إن تكرار هذه المشاهد لا يجذر الولاء للمنهج الديمقراطي، ولا يعزز التمسك به مثلما ينفر الناس منه ويجعلهم يكفرون بتعددية لا تحمل لغتها مفردات الاحترام.الارتقاء في لغة الحوار والاختلاف هما تأصيل للممارسة الديمقراطية وحماية لها وتحصين لمسارها، وانحدار اللغة هو انحدار للتجربة برمتها، فهل يدرك السادة النواب خطورة ذلك؟ أصبح السؤال الذي يردده السواد الأعظم من الناس بعد تلك المشاهد البرلمانية:«بالله عليكم ماذا تستفيد البلاد من مثل هذه السجالات والمعارك... وأين أولوياتنا؟».إنه سؤال خطير، وخطورته تكمن في درجة تكراره التي تتضاعف يوماً بعد يوم.* حكوماتلم أقرأ أو أسمع يوماً أن حكومة أوروبية تأخر تشكيلها في دولة ما لأنها تنتظر القرار من دولة أخرى... فلم تؤخر ميركل تشكيل الحكومة الألمانية بانتظار مباركة قصر الإليزيه في باريس، ولم يتأخر إعلان الحكومة الهولندية لعدم موافقة قصر بكنغهام على تركيبتها.أما في الوطن العربي فأنت تقرأ وتسمع العجب العجاب... فالحكومة اللبنانية تتأخر لأشهر في انتظار مباركة دمشق، والحكومة العراقية لن تتشكل ما لم تحسم التوافقات في طهران... ويقولون لماذا يتفوق علينا العالم الآخر...!