على هامش قراءة هيرنانديز

نشر في 26-04-2010
آخر تحديث 26-04-2010 | 00:01
 فوزي كريم حين بعثَ "هيرنانديز" بمجموعته الشعرية الأولى "خبير الأقمار" (1933) إلى "لوركا" أجابه: "لأنك تملك دمَ شاعر، حتى وأنت تحتج في رسالتك، تُبدي خللَ العواطف الحادة الضارية (تلك التي أحب)، رقةَ قلبك المليئة بالألم والضوء".

وفي حديث متأخر مع "بابلونيرودا" يستعيد الشاعر الكبير لقاءه مع الشاعر الشاب في مدريد: "كان هيرنانديز صبيا من الرعاة، التقيتُه في مدريد عام 1934، حين جاءني إلى مقر مجلة كنت أصدرها. جاء من قريته مباشرة، مرةً في الطريق قلت له: "إنني لم أسمع في حياتي صوت عندليب، فهذه الطيور لا تتوافر في بلادي بفعلِ المناخ البارد، وثب "هيرنانديز" على شجرةٍ وتسلق ذراها، ومن هناك أخذ يصفر مقلدا العندليب، انحدر بخفة وتسلق ثانية، ومن ذراها أخذ يصفر ولكن بطبقة مختلفة. ومرة حدثني عن أنثى الماعز، كان يضع أذنه على بطن الحبلى منها، ليصغي إلى تدفق أنساغ الحليب التي تصب في الضرع".

"رفائيل البيرتي" يستعيد صورةَ وجهه الذي "يشبه بطاطا اقتلعت من التربة توا" وشعره الذي ينضح برائحة طين التربة.

ولد "هيرنانديز" عام 1910، أي بعد عقد من الزمان من ميلاد جيل لوركا، ولكنه كان ألصق بموروث "غونغورا" وأقرب إلى روحه من الجيل الذي تسمى باسم جيل (27)، والذي كان أميل إلى حداثة الشعر الفرنسي "الحر" وإلى طلاقته السوريالية.

تقاسم الموت والمنفى مصير معظم الشعراء المحدثين الإسبان، "لوركا" قتل في الأسابيع الأولى من الحرب الأهلية. "مشادو" مات في الشهور الأخيرة منها. "هيرنانديز" مات بعد ثلاث سنوات من انتهائها. "البيرتي" هرب إلى إيطاليا ثم الأرجنتين. "خيمينيث" إلى بورتوريكو ... الخ. وهذا الموت وقرينه المنفى يتجسدان بصورة دامية في قصائد هذا الشاعر، الرعوي الشاب الذي يقدم إلى الانكليزية.

المرحلة التي سبقت الحرب الأهلية أحاطت "هيرنانديز" بكوكبة من الشعراء الأصدقاء، امتصت منه مشاعر الوحدة، وأوجدت له بدائل في وعي يساري جديد جعل في شعره طعما اجتماعيا لم يفتقده في المراحل التالية. على أنه لم يفتقد الجذور الدينية التي بقيت تغذي شعره بالبعد الميتافيزيقي.

 في واحدة من أجمل قصائد هذه المرحلة يخاطب "جوزفينا" في بناء "السونيت"، مطلعها:

"قلبك برتقالة مجمدة/ ما من ضوء يخترق قشرتها"

وفي المقطع الأخير:

"على حواشي أساي منديل ظامئ/ يحوّم، آملا بلَّ الظمأ من دموعي"

ما من شاعر تتعثر في شعره كلمات وصور الموت، الدم، القلب، الملح والحزن مثل تعثرك في قصائد هذا الشاب الذي مات مشلولا جراء التعذيب في واحدة من سجون "فرانكو" عام 1941:

"سكين: آكلة الإنسان/ بجناح حلو، ساع إلى الجريمة/ تحلق، أبدا، وتأتلق حول حياتي كلها".

في مرحلة الحرب الأهلية التي امتدت ثلاث سنوات (1936-1939) كان "هيرنانديز" جنديا متحمسا في الجيش الجمهوري. تزوج "جوزفينا" وأصدر مجموعتين شعريتين:"رياح الجماهير" (1937) و"اصطيادات الإنسان" (1939). ولقد استبدل بموضوع "الحب" الأثير موضوعَ "الحرب"، ووجدت صبغة العنف والقسوة مدى رحبا لها في هذا المعترك الدامي. حتى أصبحت صبغة الدم رؤيا لا ترى عبرها إلا الجراح والعرق والسجون والخنادق:

"للدم رائحة كرائحة البحر ..."

"لم يكن وابلا ، بل دم يضرب على جبهتي

سنتان من الدم: طوفانان/ دم يدوّم كالشمس، مبتلعاً كلَّ شيء/ حتى تركت الشرفاتِ غريقةً مهجورة".

كان "هيرنانديز" يكتب الشعر، ويقاتلُ ويسافرُ من مدينة الى مدينة لقراءة شعره الحربي. كان شاعر الحرب الأهلية دون منازع، ولكنه كان في الوقت ذاته مريضا سهلَ المكسر.

عند انهيار الجمهورية وتوقفِ الحرب هربَ "هيرنانديز" إلى البرتغال، ولكنه أعيد سجينا. حُكم عليه بالإعدام، وخفف الحكم إلى ثلاثين عاما، وفيها دب مرض السل إلى رئتيه، ليموت في 28 مارس عام 1942 .

back to top