دعاوى الحسبة من جديد
استوقفني كما العديد من القراء خبر عن دعوى يرفعها عدد من المحامين في مصر ضد كتاب «ألف ليلة وليلة»، أو بالأحرى ضد ناشرَي الكتاب في طبعته القاهرية الجديدة، وهما هيئة قصور الثقافة سلسلة «ذخائر» والمشرفون على السلسلة يتقدمهم الأديب جمال الغيطاني.
قد يمر الخبر مرور الكرام لو كان الأمر يتعلق بإصدار إبداعي حديث، فدعاوى الحسبة من هذا النوع أصبحت تنتقل من وطن عربي إلى آخر كدليل على تكريس التخلف، والرجوع إلى الوراء، لكن اللافت أن تتعرض كتب التراث لهذا النوع من الهجوم، وهي الشاهد الوحيد المتبقي على سماحة التراث العربي الإسلامي، وتوسع أفقه في القرون الماضية، وهذا ما يفضح هواة الانغلاق ورفع الدعاوى في أيامنا هذه، إذ كيف يسمح التراث الإسلامي بتداول: ألف ليلة وليلة، وكتاب الأغاني، وتحفة العروس ومتعة النفوس، وغيرها من الكتب، بينما تضيق نفوس «المتزمتين المعاصرين» عن ديوان شعر، أو مجموعة قصصية لا تتناول أقل القليل مما يرد في كتب التراث. ومن حسنات كتب التراث أنه ليس لها مؤلف محدد يلجأ هؤلاء إلى محاكمته والاقتصاص منه، والحمد لله أن أبا نواس، وعمر بن أبي ربيعة، وأبا الفرج الأصفهاني، وجلال الدين السيوطي ليسوا بيننا الآن، وإلا امتلأت أروقة المحاكم بدعاوى الحسبة التي تُرفَع ضدهم، ولكان أبا نواس الآن في أحد السجون المركزية ينشد العفو من الحاكم العام، والأدباء يتضامنون معه بتوقيعات لا تُسمن ولا تغني من جوع. يتكشف جلياً أن دعاوى الحسبة أكبر ما تستهدف الأدباء والمفكرين، وبذلك قد يكون المبدع ضحية دعوى قضائية من شخص لم يعرفه، ولم يلتقِ به يوماً، بحجة الإساءة إلى الذات الإلهية، أو خدش الحياء العام، عبر كتاباته ومؤلفاته، وقد يمتد الأمر إلى المطالبة بالتفريق بينه وبين زوجته، وهكذا ندخل في دوامة لا نهاية لها، وخلاصة ذلك أن يعيش المبدعون والمفكرون رعباً نفسياً، وخشية اجتماعية تصدهم عن الخوض في أي مجال قد يعرضهم للقضاء والمحاكم.ولو عدنا إلى كتب التراث الإسلامي ومن بينها «ألف ليلة وليلة»، لوجدنا أن الفضل في انتشارها والمحافظة عليها يعود بقدر كبير منه إلى المستشرقين، والجامعات الأوروبية، من ذلك كتاب «طوق الحمامة» الذي يعود الفضل في اكتشاف نسخته الحديثة إلى عام 1841 حين اكتشف المستشرق الهولندي رينهارت دوزي نسخته الوحيدة في مكتبة جامعة ليدن بهولندا، وهي واحدة من الجامعات التي تحتوي قسماً عريقاً للدراسات الإسلامية ومقارنة الأديان، وكذلك كتاب «ألف وليلة وليلة» ذاته، الذي لم يأخذ بعده وانتشاره العالميين إلّا بعد الترجمتين الفرنسيتين الشهيرتين، الأخيرة عن دار «غاليمار» الباريسية. أما ما قبل ذلك، فإن الطبعات المصرية والسورية واللبنانية لم تخلُ من أخطاء مطبعية ومنهجية أشار إليها عدد من المحققين.وتعود أهمية «ألف ليلة وليلة» وانتشارها العالمي إلى أنها تحوي خلاصة الفطرة الإنسانية المتمثلة في الحكي، وسرد القصص، سواء كانت خيالية أو واقعية، لذلك فإن كثيراً من الأدباء العالميين في أوروبا وأميركا اللاتينية لم يخفوا تأثرهم بحكايات ألف ليلة وليلة، بل إن بعض الأوروبيين لا يعرفون عن الثقافة العربية سوى هذا الكتاب الذي ولّد لنا أشهر الشخصيات الترثية الواردة في قصص الأطفال، والكبار على السواء.كان الأجدر بنا أن ندعو إلى الاعتناء بهذا التراث وإعادة طباعته، بدلاً من ملاحقته ومحاكمة ناشريه بدعوى خدش الحياء العام.