كان سطح البحر هادئاً. من مكاني، من الحانة الأرضية المشبعة برائحة الدخان وتبغ البحارة، كنتُ أستطيع أن أرى الألوان القديمة. القاتمة، للسفن والقوارب الشراعية. كانت تشغلني فكرة البحر والمحيطات، كان يشغلني اللون الأزرق بدرجاته المتفاوتة.

Ad

ثم صمتتْ.

- ماريا، إنني أسمعك يا ماريا.

- لستُ صماء، أنا أسمعك أيضاً وكنتُ أسمع حتى خفق أجنحة النوارس. أرجوك لا أحب أحداً أن يناديني باسمي، أريدك فقط أن تنصت إليّ.

-حسناً أنا لستُ طبيبك على أي حال.

كان يشغلني اللون الأزرق بدرجاته المتفاوتة. لم يكن هناك موضع قدم في الحانة. البحارة بملابسهم التي تفوح منها رائحة الملح واليود وغلايينهم المعقوفة، يملأون المكان.

كنتُ امرأة وحيدة، وكنت دوماً امرأة وحيدة. لا تسألني لماذا؟ أنا نفسي لم أسأل هذا السؤال. ربما كان عليّ أن أسأل تلك العين الزرقاء، تلك العين الوحشية التي راقبتني طويلاً وامتصتْ أجزاءً كبيرة من حياتي وتركت ما تراه فيّ الآن. تلك هي عين الزمن. عين عميقة تشبه بئراً مليئة بمياه العالم. القهقهات؟ أجل كنت أسمعُ القهقهات من أفواه البحارة. كنتُ أسمعُ أيضاً أحاديثهم الخشنة التي لا تنقطع والتي كانت تشبه روائح الماضي. كانوا يبدون سعداء مع أن كلامهم لا يشير إلا إلى الغائبين، أولئك الذين فقدوا في البحر، أولئك الذين سقطوا في الجروف أو الأعماق، أولئك الذين تحطمتْ حيواتهم في العواصف وبين قبائل أسماك القروش، أولئك الذين شكلت المغامرة في أحلامهم الإضاءة الكبرى للحياة.

ثم صمتتْ.

أتعرف لم أكن خائفة. كنتُ أشربُ جعتي على مهل. كنتُ أقول لنفسي هذه الظهيرة لا تعوض. وهذا موضوع نداء الأقاصي. كنتُ أسمع اصطفاق الأبواب والقهقهات التي تعلو، كنتُ المرأة الوحيدة بين زمرةٍ البحارة. مع ذلك لم أكن خائفة. لا شيء ذكرني كثيراً في تلك اللحظة بالذات بأنني كنتُ أعيشُ في اليابسة. أجل فكرتُ، قلتُ لنفسي ما الذي أتى بي إلى هذا المكان، لم أجد جواباً. كأنني سحبتُ سحبا، كأنني كنتُ وشما في ذراع.

ثم صمتتْ.

لأول وهلة لم أنتبه، بالكاد رفعت عيني إلى المرآة. ثم لاح شيء غامض، وضبابي. كانت مرآة كبيرة مثبتة على الجدار. رفعتُ رأسي، وكان ظهر الكرسي يسند مرفقي الأيمن، كانت لحظة خاطفة. رفعت عيني فلمحتُ نصف الوجه، بروفيل. أجل، هكذا كان الأمر، لكنني استبعدتُ الفكرة، تماماً. كان شيئاً أشبه بالحلم.

ثم صمتت!