لو قرأنا، وأعدنا القراءة، وتأملنا فيما نقرأ، وأدركنا حقيقة ما نقرأ، لما فعله العرب في العراق منذ فجر التاسع من إبريل 2003 حتى الآن، لوجدنا وبكل ألم وحزن ومرارة واستنكار– من قبل الضمائر الحية والعقول الليبرالية المتوقدة– أن ما فعله العرب في العراق من دمار، وقتل، ونهب، وسرقة، وخطف، وتفجير، ونشر فوضى، واعتداء على رجال الأمن... إلخ، يفوق كثيراً وبأضعاف أضعاف ما فعله العرب في إسرائيل، التي ظلت على مدار الأعوام الطويلة التي أعقبت 1948 تبني، وتُشيد، وتُعمّر، وتكبُر كدولة ذات قوة عسكرية واقتصادية وعلمية وإعلامية، تفوق في قوتها دول المنطقة، بل هي تتفوق عليها مجتمعة في بعض الأحيان، فيما لو علمنا مثلاً أن الدخل القومي الإسرائيلي السنوي، ودخل الفرد الإسرائيلي السنوي، يساوي دخل الفرد في مصر والأردن وسورية ولبنان وما تبقى من فلسطين مجتمعين، كما قالت مجلة "الإيكونوميست" في نشرتها الاقتصادية السنوية عام 2009.

Ad

والعرب حاربوا إسرائيل أربع حروب فقط حتى عام 2006 ، وخسروا منها ثلاث حروب، وربحوا ربحاً جزئياً ودبلوماسياً في حرب عام 1973، ولكنهم لم يُلحقوا بها دماراً إرهابياً، كما أحدثوا في العراق.

حقائق من أرض الواقع

دعونا نُلقِ نظرة سريعة مقارِنة، بين ما قام به العرب ضد العراق وشعب العراق، وبين ما قوموا به ضد إسرائيل، من خلال التالي:

1 - أن الإرهاب العربي للعراق، أخذ من وجود قوات أجنبية في العراق ذريعة رئيسة لانتشار العمليات الإرهابية في العراق، وتلك كانت حجة واهية، ولا تصمد بقوة في وجه المنطق السياسي الذي يقول، إذا كانت القواعد العسكرية الأميركية في العراق هي سبب العمليات الإرهابية في العراق، ففي معظم الدول العربية- خصوصا بعض دول الخليج- قواعد عسكرية أميركية ثابتة ومتحركة، وقبلها كان هناك قواعد عسكرية سوفييتية قبل سقوط الاتحاد السوفييتي وتفككه في عام 1989 في الدول العربية ذات التوجه السياسي اليساري، وذات الاقتصاد الاشتراكي.

 فلماذا لم نشاهد نشاطاً إرهابياً ضد أي قاعدة من هذه القواعد؟ ولماذا تمَّت إزالة بعض هذه القواعد بقرار سياسي كما سيتم في العراق، وليس نتيجة كفاح وطني، ومقاومة مسلحة؟

 ومن هنا نرى أن الإرهاب الذي اجتاح العراق، لم يكن لمقاومة الوجود العسكري الأجنبي بقدر ما كان موجهاً للعراق ذاته، وللشعب العراقي نفسه، والدليل على ذلك أن عدد الضحايا من القوات الأجنبية نتيجة الإرهاب المسلح، كان أقل بكثير من عدد الضحايا من الشعب العراقي نساءً وأطفالاً وشيوخاً وطلبة مدارس، وطلبة جامعات، وأساتذة هنا وهناك، وأطباء، ورجال أمن وسياسيين وصحافيين... إلخ.

فهل هؤلاء هم المحتلون للعراق؟

 كما كان حجم الدمار الذي أصاب البنية التحتية العراقية، أكبر بكثير من حجم الدمار الذي أصاب المنشآت العسكرية الأجنبية في العراق، وكانت الخسائر التي أصابت المنشآت النفطية، والكهربائية، والمائية، والتعليمية، والطبية الوطنية العراقية، أكبر بكثير من الخسائر التي أصابت مثيلاتها من المنشآت العسكرية الأجنبية، ومن هنا نرى أن العمليات الإرهابية المسلحة أرادت تدمير "العراق الجديد"، واستهدفت بالدمار والقتل هذا "العراق الجديد" كوطن، وشعب، ومستقبل، وفجر جديد بالدرجة الأولى والأخيرة، أكثر من أي جهة أخرى.

2 - لو نظرنا إلى الناحية الأخرى من نواحي وجوب مقاومة الاحتلال الأجنبي لوجدنا أن إسرائيل منذ عام 1948 إلى الآن، لم تُعانِ عُشر ما عاناه العراق خلال سبع سنوات ماضية، بل إن ما فقدته إسرائيل من ضحايا في حروبها الخمس مع العرب في 1948، و1956، و1967، و2003، وأخيراً 2006، من جنود ومدنيين، وما أصابها من دمار وخراب في منشآتها المختلفة لا يوازي أبداً، ما فقده العراق خلال شهر أو شهرين أو ربما ثلاثة أشهر، من ضحايا من رجال أمنه الوطني في أي عام من الأعوام التي تلت 2003.

 ولنلاحظ أن عمليات الدمار والقتل في العراق، قد استهدفت مدناً ومجمعات ومنشآت معينة، كانت فيها ملامح النزاع الطائفي الديني واضحة المعالم للمراقب، وهو ما يدل على أن العمليات الإرهابية في العراق، كانت تهدف بالدرجة الأولى إلى جرِّ العراق كله إلى حرب أهلية بين الطائفتين الدينيتين الكبريين في العراق: السُنَّة والشيعة، وليس إلى تحرير العراق، مما أطلق عليه "الاحتلال الصليبي" للثغور الإسلامية.

3 - لقد تصالح بعض العرب مع إسرائيل، رغم كل العداء العربي–الإسرائيلي، وأقامت كل من مصر والأردن علاقات دبلوماسية وتجارية ونفعية بينها وبين إسرائيل، وتبادلتا السفراء والسفارات، ولكن ظلت معظم الدول العربية رافضة وخائفة من القيام بتلك الخطوة في "العراق الجديد"، ومن بين من فتح سفارته أخيراً في بغداد، من استعملها كمركز استخباراتي (لا عجب ولا غرابة في ذلك، فمعظم الدول تستعمل سفارتها كأوكار لاستخباراتها وتجسسها على الدول الأخرى، ولكن الأمور معها لا تصل إلى درجة ارتباط هذه السفارات بعصابات الإرهاب والقتل والسرقة في ذلك البلد كما يجري في العراق) كذلك، فقد انقطعت معظم السُبل العراقية- العربية، في حين أن بعض أسواق العالم العربي فُتحت للمنتجات الإسرائيلية، وقامت بعض الدول العربية بتصدير الغاز والبترول والمواد الأولية اللازمة للصناعات الإسرائيلية، كما قامت بعض الدول العربية بسرقة بعض النماذج التعليمية والصناعية، وتطبيقها في العالم العربي، دون الإشارة إلى مصدرها الإسرائيلي.

4 - كان في العالم العربي خصوصا في اليمن والمغرب والعراق ذاته جاليات يهودية عُوملت باحترام شديد، واعتُبر اليهود في هذه البلدان مواطنين يتمتعون بكثير من الحقوق كبقية المواطنين الآخرين. وعندما أراد وقرر قسم منهم الهجرة إلى إسرائيل، سُمح لهم بذلك، ومازالت أعداد منهم تقيم في هذه البلدان، أما ملايين العراقيين الذين اضطروا بفعل موجات الإرهاب الدينية العنيفة إلى ترك وطنهم العراق، واللجوء إلى بعض البلدان العربية للعيش فيها، إلى حين استقرار الأمن في وطنهم، فقد ذاقوا صنوفاً من العسف، والتضييق، والكراهية الرسمية والشعبية، وقيل إن سبب الكراهية الشعبية جاءت من كون هذه الملايين من العراقيين تسببت في رفع مستوى المعيشة، وغلاء المنازل والإيجارات، وزيادة زحمة المواصلات، وارتفاع ثمن الخدمات العامة... إلخ.

 ولم يقم الإعلام العربي بواجبه بشرح المأساة العراقية وأسبابها الحقيقة، بل كان جُلّ الإعلام العربي في هذه الحالة طرفاً في زيادة وتيرة الإرهاب، وتشجيع مرتكبيه على القيام بمزيد من العمليات الإرهابية.

وتاريخ العرب في العراق، مازال يسجل المزيد من الأخطاء القاتلة والمخزية، مما لم تعد المساحة المخصصة لهذا المقال قادرة على استيعابه.

* كاتب أردني