الله يرحم الوالد، كان كثيراً ما يتفرّس في وجوه من لا يعرفهم ويطلق أحكامه بناء على تفاصيل وجوههم: "إذا صدق ظني، فهذا شجاع كما يبدو من عينيه، وهذا أرعن لالتقاء حاجبيه إلى الأسفل وانكماش جبهته ونحول أعلى أنفه، وذاك جبان رعديد كما يظهر من كذا وكذا...". كان يثبت حجته بالأدلة الشكلية، لكن كل ما كان يهمه ويشغله هو الشجاعة والجبن، لا شيء آخر. لن تسمعه يقول هذا كريم وذاك بخيل، أو هذا ودود بشوش وذاك عبوس غضوب، أو غير ذلك. الشجاعة فقط هي محور الأرض وهي ما كان يبحث عنه ذلك الشايب الوحش.

Ad

منهُ ورثت هذه العادة، ووجدت نفسي تلقائياً أتفرس في وجوه المارة، وصرت أحدّث نفسي: "هذا رعديد، وذاك صنديد..."! على أن أحكام الوالد كانت أصدق من أحكامي وأدق، لفارق الخبرة والدهاء والفراسة بيننا.

وحاكم دبي، محمد بن راشد المكتوم، شجاع، شكلاً ومضموناً. أفعاله وتصريحاته وطموحاته تقول ذلك. خطواته تثير حقد الذكور "العجائز"، وأقول "حقد" لا "غيرة"، والفرق فرسخ... يُشعرك محمد أن بينه وبين الأيام حرباً طاحنة، فاليوم الذي يمر بلا مشروع جديد هو هزيمة لمحمد، لذا نشاهده يتنقل بين جبهات المعركة، يحارب الأيام ويطعنها ويدميها، إلى أن تراجعت الأيام وتحصّنت بقلعتها، فأخذ يدكها بمنجنيق عزيمته و"يحدو حداء الحرب"، فأذعنت له صاغرة وخرجت من قلعتها وأعطته مفتاحها، فأمِنَ غدرها – وهنا الكارثة - ونام نومة المنتصر، فغافلته الأيام وتسللت إلى خيمته وطعنته من ظهره انتقاماً.

وها هو محمد بن راشد في خيمته يتألم دون أن يتأوه، يغمض عينيه بقوة ويعض شفته السفلى حتى يكاد يدميها، لكنه سرعان ما يفرج عن شفتيه لترسما ابتسامة شامخة أمام كل حاقد ومحب، فإذا خلا بجرحه ليلاً أعاد غلق عينيه وعض شفته السفلى وأطلق آهة مكبوتة يحرص على ألا يسمعها أحد، حتى أهله.

أنا لست من عشاق دبي، ولا يلفتني عطرها ولا تسريحة شعرها، ولا أطرب لغنائها ورقصها، ولا أجالسها إلا مدعوّاً أو مُكرَهاً، ولا أراقصها إلا على مضض، أو مضضين... والاختلاء بإثيوبيا السمراء، الهادئة الناعسة الطرف، العارية إلا مما يستر عورتها، يغريني أكثر من الاختلاء بدبي الصاخبة المشاغبة الراقصة المختالة بفستان سهرتها المرصع باللآلئ. فأنا عاشق لهمس الطبيعة لا صخب الماكينة، وشموخ الجبل الحافي لا تطاول البرج بكعبه العالي، و"للناس في ما يعشقون مذاهبُ". لكنني لا أملك - في كل زيارة إلى دبي – إلا التصفيق، لها ولفارسها.

واليوم، والدماء تنزف بغزارة من ظهر الأسد محمد بن راشد، تعالت قهقهات الدجاج، فصعِدتْ أعلى عششها وراحت تشمت! أبو الدنيا الجبانة، على أبو الدجاج، الحي منه والمُجمد.

ستقولون، لو كان أحاط خيمته بجيش الديمقراطية، لما تسللت الأيام إليه وهو نائم ولا تجرأت على طعنه في ظهره. صحيح. صحيح وبشدة. هو أخطأ لكنه لا يستحق الشماتة، وسينهض، حتماً سينهض، وسيعيد إلى دبي صخبها وضجيجها ورقصتها المجنونة بعدما يقتني لها فستان سهرة تختال به بين الحاقدات من بني جنسها. ستنهض دبي... وليس أشد على النفس من سقوط الأسد، إلا شماتة الدجاج... ولذا أقول: "سيثأر محمد من الأيام، فالشجاع مُعانٌ... ركّوا أنتم على البيض، وراقبوا".

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة