في الماضي، عندما كانت السينما صامتة، وكان معظم الجمهور من الأميين الذين لا يستطيعون قراءة المقاطع المكتوبة بين مشاهد الفيلم، نشأت حاجة إلى تشغيل أشخاص مهمتهم الجلوس أو الوقوف إلى جانب الشاشة، لشرح أحداث الفيلم للجمهور.
طبيعة مهنة هؤلاء كانت تفرض عليهم مشاهدة الفيلم سلفاً، للإلمام بتفاصيل القصة، والتمييز بين الطيب والشرير من الشخصيات. وعلى رغم أن الأفلام بأجمعها غربية، وبمعظمها أميركية، فإن هؤلاء «الببغاوات» كانوا لا يجدون غضاضة في إدخال نكهة محلية على تعليقاتهم، تبدو معها مجريات الفيلم الغربي وكأنها جزء من طبيعة واقع الجمهور.في هذا السياق كان «فيربانكس» الأميركي يولد على الشاشة العراقية باسم جديد هو «أبو جاسم»، فيما يبدو على الشاشة المصرية باعتباره «الواد المجدع» أو «الفتوة» الذي لا يدري أنه، في الساعة نفسها، قد تحول إلى «قبضاي» يسعى إلى إنقاذ البنت الجميلة من المجرم، على قماشة الشاشة في بلاد الشام!لم يكن غريباً، آنذاك، أن يطلب «الشارح» من الجمهور أن يدعو للبطل بالنصر على غريمه، فتضج القاعة بالدعاء الحار «اللهم انصره»... وعندما ينتصر البطل ، وهو لا بد من أن ينتصر، ينشرح الداعون، ويظنون أن بركة دعائهم حلت على الشقي أو الفتوة أو القبضاي، ويخرجون وكأنهم هم الذين انتصروا!يبدو أن هذه المهنة كانت معروفة في جميع أنحاء العالم، إذ يروي المخرج الياباني الشهير كيراساوا في مذكراته أن شقيقه الأكبر الذي كان يمارس هذه المهنة، قد انتحر عندما واجه البطالة والكآبة، بعد زوال عصر السينما الصامتة.ومعلوم أن زوال تلك السينما أزال معه كثيراً من نجومها الكبار الذين لم يكونوا مؤهلين (صوتاً أو القاء) لدخول عالم السينما الناطقة، لذلك فلا غرابة أن يزيل معهم أولئك «الشارحين» الناطقين بلسان حالهم، ليتحولوا إلى مجرد ذكرى طريفة من ذكريات ذلك الزمان.لكن المفاجأة، أن هذه الظاهرة لاحت مجدداً وبقوة في مطلع الألفية الثالثة، وفي عز تقدم تقنيات السينما الناطقة. وعلى رغم أن ظهورها بمثابة إحياء لذكرى مضحكة، فإنها، ويا للمفارقة، قد خرجت وسط مظاهر البكاء، من رحم الموت الزؤام!كثر شاهدوا، بالصوت والصورة، تكالب الأفغانيين وتقاتلهم على باب دار السينما، بعد رحيل طالبان من كابول، غير أن القلائل، على ما أظن، انتبهوا الى شخص جالس الى جوار الشاشة ليشرح أحداث الفيلم الهندي لهؤلاء المتفرجين الذين اكتملت فجأة جميع متطلبات حياتهم الضرورية والكمالية، ولم يعد ينقصهم شيء سوى السينما!ولأن أقدار الأفغانيين الكريمة هيأت لهم من يسد ثقب هذا النقص، فقد كان لا بد لها لإتمام النعمة من تكليفه باستخراج «الترجمان» من صندوق الزمن الغابر!«العجائب صناعة أفغانية»... هذا ما قلته لنفسي بمرارة، عندما رأيت ذلك المشهد في نشرة الأخبار، لكنني، على رغم اتساع المهزلة، لم أتخيل أن المشهد ذاته سيصبح، بسرعة خارقة، سمة عامة وثابتة في الواقع الأفغاني... ليس في قاعة سينما ضيقة، لكن في مسرح واسع هو عبارة عن بلد مفتوح من جميع جهاته للهواء غير الطلق.فمنذ أعدّت أميركا مسرح عملياتها، لم يشغل بالها شيء أكثر من مسألة ملء الكرسي المجاور للخشبة بترجمان أميركي الروح أفغاني العباءة يحسن توجيه معاني العرض طولاً وعرضاً للذين لا يفهمون مقاصد الفن الأميركي!وسرعان ما وجدت الترجمان المناسب، فبدلاً من «ملك» مستهلك، وضعت على الكرسي رجلاً طازجاً وأعلنته «ملكاً» للأناقة... إي والله!وقد شاءت الصدف الحسنة ان يتوافق اسما بطل العرض وبطل الاستعراض، كما تتوافق ملامح التوائم: فهناك على الخشبة «قبضاي» منهمك في إطلاق النار على الجمهور، وهنا على الكرسي «قرضاي» أو كرزاي بالأفغانية الفصحى، منهمك في استثارة همة الأحياء الباقين، صائحاً بأعلى صمته: «إدعوا له»!ولأنه الأفضل في رفع الدعاء، فقد بارك له البطل، بإعادة انتخابه لهذه المهنة... بالتزكية بعد التزوير!وقد كان مسرح أميركا التجريبي في أفغانستان نموذجاً حرصت على تطبيقه في العراق أيضاً، وإن كان بشكل منقوص، إذ إن إغلاق أو هدم دور العرض السينمائي هناك، جعل البطل مكتفياً بدعاء الببغاوات «الممتهنين» في الهواء غير الطلق.لكن اذا كان القضاء المبرم اختارنا لنكون في طليعة من يشهدون معجزة «الحداثة» الأميركية التي تحيي «الفولكلور» وهو رميم، فإن أقل ما ينبغي لهياكلنا العظمية المتراصفة في مقاعد الجمهور أن تصر على مشاهدة عروض قتلها من دون «ترجمان»، مكتفية بالقتل وحده شارحاً ومشروحاً، إذ ليس هناك ما هو أقسى منه إلاّ إجبارها (القرضايات) على أن تتجرعه مصحوباً بدعائها للقاتل بالنصر!
توابل
العجائب صناعة افغانية
05-03-2010