هذا سؤال عمره أكثر من قرنين، تم طرحه في أواخر القرن الثامن عشر في أعقاب الصدمة الحضارية الأولى بالغرب الذي غزا ديار المسلمين بأسلحته المتطورة وتفوق عليهم بتقنياته المبتكرة وحمل إلى ديارهم في ركابه مظاهر التحديث كالمطبعة والأساليب والتقنيات التي أذهلتهم، وكذلك النظم والمعارف والعلوم والأدوات والمعدات التي لا عهد لهم بها، لقد طرح هذا السوال النهضوي الكبير بصيغة أخرى: لماذا تقدم الآخرون وتخلفنا بعد أن كنا متقدمين؟!
انشغل آباء النهضة ورواد الإصلاح والمفكرون بهذا السؤال الذي شكل تحدياً مقلقاً لأفكارهم الموروثة ولأوضاعهم السائدة، بحثاً عن تشخيص سليم لأسباب الخلل في بنية المجتمعات الإسلامية، تعددت الإجابات وتنوعت الاجتهادات باختلاف المدارس والأطياف الفكرية والسياسية والدينية، وكانت هناك تفسيرات وحلول من أبرزها: 1- الحل الديني: وهوأقدم الحلول التي فسر بها تخلف المسلمين، إذ يرى أصحاب الحل الديني أن تخلف المسلمين يرجع إلى ابتعادهم عن دينهم وعدم تحكيمهم للشريعة في مجتمعاتهم، ولا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، أي بما كان عليه السلف الصالح، لكن هؤلاء اختلفت رؤاهم للحل الديني فالسلفيون شخصوا العلة في انحراف المسلمين عن «العقيدة الصحيحة» فصرفوا كل جهودهم في محاربة من سموهم أهل البدع والأهواء الضالة، ويقصدون بهم عباد القبور الذين يستعينون بالأولياء والصالحين في قضاء حاجاتهم، والحركيون أتباع الإسلام السياسي، وأبرز من يمثلهم «الإخوان المسلمون» ركزوا جهودهم على تخوين الأنظمة العربية، وكل الجماعات والأحزاب الأخرى المخالفة لهم ووصموها بالتبعية والعمالة للغرب ورفعوا شعار «الإسلام هو الحل» وصولاً إلى السلطة بهدف تكوين دولة إسلامية تناطح الغرب، وتحقق تقدم المسلمين، وتستعيد أمجاهدهم الماضية. وهناك المدرسة التقليدية التي ركزت جهودها على إرجاع تخلف المسلمين إلى انتشار المعاصي في المجتمعات الإسلامية، الأمر الذي عاقبهم الله بتغلب الكفار وتسلطهم على ديار المسلمين، فلا حل إلا بالتوبة والعودة إلى الله. وهناك الإصلاحيون الذين يسعون إلى تجديد الخطاب الديني باعتباره عاملاً أساسياً في تغيير الثقافة الدينية، وفي تصحيح المفاهيم الدينية المغلوطة المتعلقة بالجهاد، والأمر بالمعروف، والولاء، والبراء، والحاكمية، والعلاقة بالآخر، وغيرها من المفاهيم التي تم تشويهها، هؤلاء يرون أنه لا أمل في عبور فجوة التخلف إلا بخطاب ديني منفتح على ثقافات العصر وروحه، يحتضن الإنسان وحقوقة وكرامته ويحتفي بقيم الحرية والعدل والمساواة. وهناك أتباع حزب التحرير الذين يسعون إلى إحياء نظام الخلافة بالصورة التاريخية القديمة، وأخيراً نجد أنصار الحل العدمي لدى أتباع «القاعدة» الذين يرهبون المجتمعات الإسلامية بأعمالهم العدوانية سعياً إلى دولة طبقاً لنموذج دولة طالبان الزائلة. 2- الحل الديمقراطي: وهو حل يحظى بتأييد معظم النخب العربية والإسلامية انطلاقاً من أن العلة الأساسية في التخلف ترجع إلى تجذر ثقافة الاستبداد في التربة المجتمعية، وهي ثقافة رسخت حكم الفرد الزعيم، وفرضت طاعته، وأوجدت ظاهرة الولع بتمجيد الزعيم حتى لو استبد، وتسبب في هزائمنا وألحق الكوارث بأوطاننا. هذه الثقافة عوقت التقدم وهمشت دور الأمه وعطلت طاقاتها وجعلتها متكلة على القائد المنقذ والمخلص الذي سيحقق لها النصر، ويعبر بها فجوة التخلف، ولذلك لا حل إلا بالتحرر من معوقات هذا الميراث التاريخي والقطيعة مع تراث الاستبداد، وتركيز الجهود على الديمقراطية ثقافة وقيماً وممارسات ونظاماً سياسياً يعيد الاعتبار إلى دور الأمة في حكم نفسها، وفي تنشيط طاقاتها المبدعة. 3- الحل العلمي: يرجع جانب من المفكرين علة التخلف إلى التخلف العلمي والتكنولوجي، وأن الغرب لم يحقق ما حققه من انتصارات وتقدم وسيادة إلا بالعلم والتكنولوجيا، وقد بدأ هذا منذ أن انهزم الجمل العربي حاكم الصحراء وصاحب الطرق التجارية، أمام شبكة الطرق الحديثة التي رسمها الغرب وسيطر بها على بلاد المسلمين. 4- الحل التعليمي: يرى جانب كبير من المثقفين أن إخفاق المسلمين في تحديث أنظمتهم، وفي تحقيق إنجازات تنموية تحقق النهضة والتقدم يرجع أساساً إلى إخفاق النظام التعليمي الذي فشل في إنتاج أجيال قادرة على مواجهة تحديات عصر العولمة، والانفتاح الثقافي والتقدم العلمي والتكنولوجي، عصر انهيار الحواجز الجغرافية والسياسية، عصر الذرة والغزو الفضائي وعلم الجينات، عصر المنافسة الشرسة على الساحة الدولية علمياً واقتصادياً وسياسياً، طبقاً لما يراه الكاتب أحمد العيسى في كتابه القيم «إصلاح التعليم في السعودية»، والكاتب وإن ركز كتابه على إصلاح التعليم في السعودية إلا أن تحليله لمشاكل النظام التعليمي ينطبق على مشاكل التعليم في المجتمعات الإسلامية، وهو إذ يتحدث عن المملكة ويقول إنها تمر بمنعطف تاريخي مهم لا يبدو لها مستقبل مشرق إلا بنظام تعليمي متطور وحديث قادر على تحقيق تنمية علمية واجتماعية واقتصادية، من خلال أجيال مستنيرة قادرة على العطاء والإنتاج والمنافسة، عبر عملية جراحية عاجلة وعميقة لمفاصل النظام التعليمي، إلا أن هذا التوصيف يعم كل الدول العربية والإسلامية. تلك هي أبرز الإجابات عن السؤال التحدي: لماذا لا نتقدم؟! وفي تصوري أن هذا السوال الذي تم طرحه قبل قرنين أصبح اليوم لا محل له في ظل تردي الأوضاع تردياً مخيفاً في كل المجتمعات الإسلامية، لدرجة أن السؤال الذي يجب طرحه اليوم هو: كيف نضع حداً لهذا التردي؟! وكيف نحول دون المزيد من التدهور في الأوضاع العامة؟! تأمل المشهد الإسلامي العام، ماذا تجد غير التفجيرات والعمليات الانتحارية التي تسقط المئات من الضحايا الأبرياء؟! وغير الصراعات الدموية بين ميليشيات دينية متمردة على أنظمتها السياسية، تسعى إلى تفكيك الدولة الوطنية وتكوين دويلات انفصالية خاصة بها كما في غزة واليمن وأفغانستان وباكستان والعراق ولبنان والصومال والسودان، حتى أن بعض الدول وصلت في سلم التصنيفات إلى وصف (الدول الفاشلة)، وهي تلك الدول التي لا تستطيع السيطرة على أراضيها إلا باستخدام القوة، وتعجز حكوماتها عن تقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها مع انتشار الجريمة والفساد، كما يقول د.عبدالمنعم سعيد في مقالة قيمة عن خطر الدول العربية الفاشلة، ويذكر من تلك الدول الصومال وأفغانستان، كما أن هناك دولاً عربية على الحافة مثل العراق ولبنان واليمن والسودان ويستطرد قائلاً: إن هذه الدول على حافة الدول الفاشلة وتنطوي على أخطار استراتيجية كبيرة على الدول العربية جميعاً، ولا يحتاج الأمر إلا نظرة إلى الخرائط الجغرافية لتبيان سهول انتقال الأخطار من دولة إلى دولة أخرى. ويضيف قائلاً: وإذا كانت أمراض مثل إنفلونزا الطيور، وأخيراً إنفلونزا الخنازير قد انتقلت بين دول العالم في سهولة ويسر، وتوحد العالم في مقاومتها، فإنه لا يوجد الكثير الذي يحمي دولاً في العالم من أخطار فشل دول أخرى. لقد علق أحد القراء على المقالة بقوله: لقد أصبحت صناعة الفشل صناعة عربية بامتياز لأننا نصر على الفشل ولا نعترف به، ونرمي باللائمة على الآخرين، ولا نتحمل المسؤولية، وإذا كانت القائمة الآن تشمل أربع دول عربية فإنها ستطول وستضم دولاً أخرى. * كاتب قطري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
لماذا لا نتقدم؟!
28-09-2009