كيف نفهم أزمة الجدار الفولاذي؟

نشر في 06-01-2010 | 00:01
آخر تحديث 06-01-2010 | 00:01
 ياسر عبد العزيز في التاسع من الشهر الماضي، كشفت صحيفة "هاآرتس" الإسرائيلية عن أن مصر تنوي إقامة جدار فولاذي على حدودها مع قطاع غزة، من أجل القضاء على مئات الأنفاق الممتدة بين الجانبين والمستخدمة في تهريب السلع والأفراد والأسلحة، "تجاوباً مع ضغوط أميركية ومطالبات إسرائيلية عديدة، اعتبرت أن استمرار التهريب عبر تلك الأنفاق أحد عوامل زعزعة الاستقرار والأمن في المنطقة".

لا شك أن الولايات المتحدة وإسرائيل ضغطتا كثيراً على القاهرة لحملها على اتخاذ إجراء ضد تلك الأنفاق، التي مكنت الفلسطينيين من الصمود كثيراً في مواجهة الاحتلال والحصار والقصف الإسرائيلي، ولا شك أيضاً أن مصر لم تقدم على إجراء صارم بحق تلك الأنفاق على مدى نحو عقدين، رغم علمها جيداً بحجم التهريب عبرها وبأسماء الناشطين في شبكات تشغيلها.

من الصعب جداً اعتبار أن مصر وجدت نفسها فجأة غير قادرة على تحمل الضغوط الإسرائيلية والأميركية، لأن الضغوط كانت أكثر شراسة إبان انتفاضة الأقصى، وفي أعقاب أسر الجندي جلعاد شاليط، وخلال العدوان الأخير على غزة في ديسمبر ويناير الماضيين، ومع ذلك فلم تستجب القاهرة لتلك المطالبات.

كما أنه من المستبعد أن تكون مصر قررت إقامة هذا الجدار كثمن لاستمرار تمتعها بالقدر الراهن من المساعدات الأميركية، أو لضمان موافقة الإدارة الأميركية على سيناريو التوريث كما أفادت بعض التقارير، لأن القاهرة تحصل على المساعدات من واشنطن في معظم الظروف والأوقات في إطار العلاقة الاستراتيجية التي نشأت بين البلدين منذ نهاية السبعينيات الفائتة، ولأن الإدارة الأميركية سبق أن أعطت موافقتها على التوريث بالفعل.

ثمة رؤيتان أساسيتان في ما يتعلق بتفسير موقف القاهرة الأخير؛ أولاهما تضع الجدار الفولاذي في إطار ما تعتبره "التواطؤ المصري ضد الفلسطينيين، بالمساعدة في إحكام الحصار عليهم، لمصلحة الإسرائيليين"، وثانيتهما تعتبر إقامة هذا الجدار "عملاً من أعمال السيادة الوطنية المصرية، ووسيلة من وسائل صيانة الأمن القومي للبلاد"، خصوصاً أن تلك الأنفاق يمكن أن تستخدم في تهريب أسلحة أو مخدرات أو إرهابيين إلى مصر، بما "يزعزع أمنها، ويسهم في تنفيذ أجندات قوى إقليمية معينة ترغب في الضغط على البلد وإخضاع سياساته لأهوائها".

والواقع أن الحكومة المصرية تتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية عن ذيوع الرؤية الأولى وتكرسها كحجة وقناعة رائجة لا تحتاج إلى برهان في كثير من أوساط الرأي العام المحلية والعربية والدولية؛ مرة لأنها لم تعلن إقامتها للجدار بنفسها، وبالتالي لم تعط نفسها الفرصة اللازمة لشرح سياستها وتبريرها ومحاولة إقناع الجمهور بها، ومرة أخرى لأن حجة "الأمن القومي" التي أقامتها دفاعاً عن موقفها لم تبدُ مقنعة للرأي العام، فضلاً عن أن المنابر التي سوّقتها لم تتمتع بالمصداقية والنفاذ الكافيين.

وككثير من القضايا الخلافية في شأن قضية الشرق الأوسط الأولى؛ فقد تحول موضوع الجدار الفولاذي المصري إلى سياسة Politics لا سياسات Policies، وأُحيل إلى سياقه الإيديولوجي من دون أن يُمنح الفرصة ليعبر عن اعتباراته التكتيكية.

منذ وقعت مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل في عام 1979 لم تتخل يوماً عن استراتيجيتها العتيدة بخصوص رؤيتها لإدارة الصراع العربي-الإسرائيلي، معتبرة أن "حرب أكتوبر 1973 هي آخر الحروب الكبرى، وأن ذلك الصراع لن يحل عبر القتال، لكنه سينتهي إلى تسوية عبر التفاوض، الذي يجب أن ترعاه الولايات المتحدة، بوصفها تملك 99% من أوراق اللعب".

وأياً كان الرأي في تلك الاستراتيجية التي تبنتها مصر، وأياً كانت البراهين المقنعة المضادة لها، فإن القاهرة لم تتزحزح أبداً عن رؤيتها، حتى عندما اجتاحت إسرائيل لبنان في 1982، وإبان الانتفاضتين الفلسطينيتين، وخلال "عدوان تموز 2006" أو الحملة على غزة قبل عام.

وفي المقابل، فقد عملت مصر على تفعيل استراتيجيتها عبر محاولة توحيد الموقف التفاوضي الفلسطيني، والقيام بوساطة ناجزة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تمكنها من حل مشكلة الشعب الفلسطيني الملحة من جهة، ومعالجة تداعيات الصراع على أمنها القومي من جهة ثانية، وتعزيز حضورها الإقليمي الآخذ في الأفول من جهة ثالثة.

لكن "حماس" التي سيطرت على غزة منذ عام 2007، والتي ترتبط بعدو الحكومة المصرية المحلي الأشرس (الإخوان المسلمين) وخصمها الإقليمي الأهم (إيران) ومنافسيها الإقليميين من عرب الممانعة، والتي تعادي حليفها الفلسطيني الأقرب (فتح)، كانت شوكة صعبة في حلقها، عوقت جهودها الرامية إلى تفعيل استراتيجيتها.

دخلت مصر بثقلها في وساطتين مهمتين؛ أولاهما بين "حماس" والسلطة الفلسطينية من أجل المصالحة، وثانيتهما بين "حماس" وإسرائيل في شأن تبادل الأسرى، لكن بدا أن الحركة أفشلت الوساطتين بعدما استثمرت القاهرة فيهما كثيراً من الوقت والطاقة، وبعدما بات الفشل فيهما عنواناً عريضاً على فشل الإدارة المصرية وتهافت دورها الإقليمي.

لم تقم مصر الجدار الفولاذي استجابة لضغوط إسرائيلية أو أميركية، أو حماية لأمنها القومي وتفعيلاً لسيادتها على إقليمها، لكنها أقامته في إطار الضغط التكتيكي على "حماس"، التي بددت طاقتها وجهدها، وتلاعبت بساستها، ونصرت عليها منافسيها، وأهانت كبرياءها.

ستتراجع مصر عن بناء الجدار، أو ستتغاضى عن خرقه، وستعود الأنفاق إلى العمل، إذا وقعت "حماس" اتفاق المصالحة مع "السلطة" في القاهرة، وإذا نفذت تبادل الأسرى مع إسرائيل، معترفة بجدوى الرعاية المصرية ونزاهتها.

* كاتب مصري

back to top