يهيمن على الساحة السياسية نوعان من الأطروحات، الأول شعبوي يسعى إلى منح المزيد من الكوادر والعطايا، والآخر انغلاقي يعمل كشرطي «أخلاقي» في فرض الضوابط الخانقة في كل مناحي الحياة، فيشغلان البلاد عن أهم قيم التقدم، وهي قيم العمل التي وصلت إلى قاع الحضيض في انحدارها الأخلاقي السحيق من جراء ثقافة الهدر الذي استنزف الوطن، سواء هدر مقدرات البلد وأمواله وطاقاته وكفاءاته أو هدر الوقت في الانشغال بتوافه الأمور، إذ يؤكد الخبير الاقتصادي جاسم السعدون أن نصف موظفي القطاع العام (الذي يعمل فيه 79 في المئة من القوة العاملة الكويتية) يعانون «بطالة مقنعة»، كما تشير مصادر أخرى إلى أن وقت إنتاج الموظف الكويتي لا يتجاوز ثلاث ساعات يومياً، بينما لا إنتاجية تذكر للموظفين الذين يصنفون تحت البطالة المقنعة، والذين من بينهم قياديون، فبعضهم يأتي متأخراً أو يأتي لساعات قليلة، والبعض الآخر يغيب بشكل مستمر عن العمل، بالرغم من تسلمهم رواتبهم كاملة، بل وبعضهم يحصل على ترقيات ومكافآت مالية لا يستحقونها، دونما أي إحساس بوخز الضمير أو الشعور بالتقصير تجاه المسؤولية الوطنية والمجتمعية.

Ad

لا يهتم هؤلاء النواب الشعبويون بتقرير البنك الدولي، الذي حذر من خطر زيادات الرواتب (غير المرتبطة بالإنتاجية) على البطالة وانخفاض مستوى التعليم والتنمية بشكل عام، ولا يعنيهم عدم استقرار أسعار النفط أو الاهتمام العالمي بالتحول التدريجي إلى الاستغناء عن الوقود، بسبب مشكلات الاحتباس الحراري، ولا يشغلهم رفع المستوى المعيشي من خلال التنمية البشرية عوضاً عن المنح والهبات التي تضاعف أزمة التضخم وزيادة القروض وفوائدها... كما لا تلقى أخلاقيات العمل كقيم الإتقان والإخلاص والإنجاز الاهتمام الكافي من قبل مدّعي الفضيلة، فالضوابط بالنسبة إليهم أهم من فساد أخلاق البيروقراطية غير المنتجة، وهدرها للمال العام والتسيب والإهمال واللامبالاة وانعدام التنافسية، وكل ما يجلبه انهيار القيم من إحباط وقتل للإبداع والابتكار، وإضعاف للمعنويات والحس الوطني، وتخلخل للوحدة الوطنية بسبب الواسطة والمحسوبية التي عززها القياديون من قمة الهرم (في السلطتين التنفيذية والتشريعية)، لتنتشر في القاعدة وتترسخ في النظام القيمي للمجتمع، فالفساد يأتي بالمفسدين، والمفسدون يمكنون من سلطة الفساد، وهكذا دواليك.

إن الظواهر السلبية المهنية وانحلال قيم العمل يُنظر إليهما بازدراء في الدول الأخلاقية التي تطبق إجراءات صارمة تردع مرتكبيها، كما تقدم مكافآت معنوية ومادية تحفز السلوكيات المهنية الإيجابية. بالإضافة إلى ذلك، تدرس جامعاتها مناهج أخلاقيات العمل والإدارة، وتطبق شركاتها ميثاق الأخلاقcode of ethics... لأنهم أدركوا أن التنمية البشرية هي المحرك الأساسي لعملية التنمية، وأن الفساد الإداري أكبر عائق لها.

أما نحن فلم نفهم بعد، على الرغم من التجارب والأمثلة، أن المجتمعات الأكثر انغلاقاً هي المجتمعات الأقل أخلاقاً.