العودة إلى مناقشة الفيدرالية في أوروبا

نشر في 30-07-2010
آخر تحديث 30-07-2010 | 00:01
لم يتم الاتفاق حتى الآن على تحويل مرفق الاستقرار المالي الأوروبي إلى مؤسسة دائمة، وهو مصمم بحيث يكون بعيداً عن الفيدرالية قدر الإمكان، وحين يتعلق الأمر بشراء البنك المركزي الأوروبي لسندات الحكومات، فلن نجد أحداً يفهم إلى متى، ولأي غرض ينبغي لنا أن نستخدم هذا السلاح الجديد.
 بروجيكت سنديكيت إنها في الواقع مناقشة قديمة، ولكن التوترات داخل منطقة اليورو كانت سبباً في إحيائها: هل تتمكن الوحدة النقدية من البقاء من دون استنادها إلى شكل ما من أشكال الفيدرالية المالية؟

وتشكل هذه القضية مصدر انزعاج لا ينقطع بالنسبة للمستثمرين في مختلف أنحاء العالم، إذ كان حاملو السندات الحكومية الأوروبية يعتقدون أنهم يعرفون كل شيء عما اشتروه، وبالطبع، لم يكن هناك ما نستطيع أن نطلق عليه الأمن السيادي لمنطقة اليورو، ولكن السندات الألمانية والفرنسية والإسبانية بل حتى اليونانية كانت جميعها تحمل نفس أسعار الفائدة تقريباً، لذا فقد اعتبرت متساوية.

ولقد أدرك المستثمرون الآن أنهم لم يفهموا حقاً ما الذي كانت تمثله تلك السندات، البناء المؤسسي وراء العملة الأوروبية، وإذا كانت الأزمة المالية العالمية قد علمتنا أي شيء فهو الآتي: حين لا تفهم طبيعة أحد المنتجات المالية، فلا ينبغي لك أبداً أن تشتريه، ولكن إذا استوعب المستثمرون هذا الدرس بالفعل، فهذا يعني أن الأزمة الأوروبية لا تزال بعيدة كل البعد عن نهايتها.

هل ينبغي لأوروبا إذن أن تتبنى الفيدرالية المالية حتى يتسنى لها تعزيز منطقة اليورو واستعادة ثقة المستثمرين؟ المشكلة هي أن الفيدرالية المالية تعني أموراً مختلفة بالنسبة لأناس مختلفين. فالأميركيون يعتقدون أنهم يعرفون الفيدرالية المالية حق المعرفة: حكومة مركزية ذات ميزانية ضخمة (نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي)، ويتخلص دورها في التعامل مع الاقتصاد الكلي في تنفيذ خط الإنفاق والضرائب المعاكسة للدورة الاقتصادية، في ظل التزام أغلب الولايات الأميركية دستورياً بشكل ما من أشكال الميزانية المنضبطة، وكان هذا صادقاً بوضوح في حالة برنامج التحفيز الذي أطلق في عام 2009، والذي اشتمل على تحويلات فيدرالية إلى الولايات بهدف دعم الإنفاق المالي على مستوى الولايات. وعلى نحو مماثل، فحين تمر ولاية مثل ميتشغان بفترة من الركود في قطاعها الاقتصادي الرئيسي (صناعة السيارات)، فإن واشنطن تقوم بجمع ضرائب فيدرالية أقل ولكنها تحافظ- إن لم تعمل على زيادة- مستوى الإنفاق المحلي، وهو ما من شأنه أن يعوض جزئياً عن الصدمة التي تعرض لها دخل الولاية. وهذا يعني على المستوى الاقتصادي أن الميزانية الفيدرالية تعمل على تخفيف الصدمات الإقليمية بشكل تلقائي من خلال العمل التحوطي والتحويلات المالية إلى الولايات، وعلى المستوى السياسي فإن هذا يجسد التضامن ويساعد بالتالي في تعزيز تماسك الاتحاد.

إذا كان هذا هو المقصود من الفيدرالية، فمن الأجدر بالاتحاد الأوروبي أن يصرف النظر عنها، وإن ميزانية الاتحاد الأوروبي تبلغ 1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما لا يتجاوز واحد من أربعين من إجمالي الإنفاق العام، ولا يتخيل أي شخص، ولا حتى أشد الأوروبيين تعصباً للتكامل، أن هذه الميزانية قد تصل إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي (بل من المرجح أن تنخفض) ولكن حتى الميزانية التي تبلغ 5% من الناتج المحلي الإجمالي لن تكون كافية للاضطلاع بدور مفيد فيما يتصل بالاقتصاد الكلي.

والحل الثاني يتلخص فيما نستطيع أن نطلق عليه "فيدرالية التوزيع". ولا يتمثل الهدف هنا في امتصاص الصدمات، بل يتمثل في تقليص الفجوات في الدخل بين مختلف المناطق، ففي ألمانيا يعاد توزيع العائدات الضريبية بين المقاطعات، وهذا شكل آخر من أشكال التضامن، وهو موجود أيضاً في الاتحاد الأوروبي، حيث يتم تخصيص أرصدة التنمية الإقليمية للمناطق الفقيرة بهدف تعزيز نموها وإلحاقها بالركب، والواقع أن هذه التحويلات المالية بالغة الأهمية بالنسبة للبلدان الفقيرة: حوالي 300 يورو سنوياً للشخص الواحد بالنسبة لليونان والبرتغال بداية من عام 2000 إلى عام 2006، وبهذا المفهوم فإن أوروبا لا تختلف كثيراً عن الولايات المتحدة نوعيا.

وتعمل هذه التحويلات على التعجيل بالتقارب حين تستخدم على النحو اللائق (على سبيل المثال، في العديد من المقاطعات الإسبانية)، ولكنها لم تكن فعّالة حين أهدرت (كما حدث في اليونان)، وهذا من شأنه أن يغذي الشكوك بشأن الجدوى من التضامن، فالألمان، الذين يعرفون تمام المعرفة منذ إعادة توحيد شطري ألمانيا في عام 1990 عما يتحدثون حين يتعلق الأمر بمثل هذه التحويلات، لا يريدون أن يسمعوا عن أوروبا حيث تضطر المناطق الغنية دوماً إلى تمويل المناطق المتأخرة تنمويا، وهم ليسوا وحدهم في هذا.

ما العمل إذن؟ لابد أن تشتمل منطقة اليورو من الناحية النظرية على التضامن مع البلدان التي تواجه صعوبات، لأن هذا هو ما يوحد الكل ويمنحه القوة، ولكن من دون الاستعانة بالآلية الثقيلة المتمثلة في الميزانية الفيدرالية أو الزيادة الدائمة في التحويلات المالية. وتحتاج منطقة اليورو إلى شكل ما من أشكال التأمين المتبادل، أو ما يمكن أن نطلق عليه "الفيدرالية القائمة على التأمين".

وكان ذلك مصدر الإلهام وراء القرار الذي اتخذ في شهر مايو بإنشاء مرفق الاستقرار المالي الأوروبي، والذي يمكن من خلاله تقديم المساعدة، بالاشتراك مع صندوق النقد الدولي، للبلدان الشريكة في أوقات الأزمات، وكان ذلك أيضاً مصدر الإلهام وراء القرار الذي اتخذه البنك المركزي الأوروبي بإطلاق برنامج شراء الأصول، والذي استخدم لشراء السندات الحكومية اليونانية والبرتغالية.

بيد أن الضجة التي تحدثها مثل هذه القرارات تعمل على تعزيز الشكوك والمخاوف بدلاً من تبديدها، ففي ألمانيا، يرى العديد من الناس أن مرفق الاستقرار المالي الأوروبي يشكل انتهاكاً للمبدأ الأساسي المتمثل في عدم جواز إنقاذ الحكومات بواسطة شركائها. وينظر الناس إلى فكرة تحول البنك المركزي إلى وكيل شبه مالي (ففي حالة إعادة هيكلة الديون اليونانية فإن هذا يعني تكبد البنك المركزي الأوروبي لخسائر كبيرة) بقدر عظيم من الرعب، حيث يشكل ذلك انتهاكاً لمبدأ الفصل بين النقود والتمويل العام.

ولكن هناك من يزعم أن بلدان منطقة اليورو لابد أن يُسمح لها بالإفلاس، وبغض النظر عن أن الدين العام للولاية المتوسطة في الولايات المتحدة يقل عن 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة، مقارنة بنحو 5% في منطقة اليورو، وهو ما يعني ضمناً أن التأثير المالي الذي قد يخلفه العجز عن سداد الديون السيادية في منطقة اليورو سوف يكون أقوى كثيراً، وبغض النظر عن عدم وجود حظر على شراء السندات الحكومية في السوق الثانوية: فقد تم تجاوز نقطة اللاعودة، ويشعر الألمان الآن بالتوتر الشديد.

لذا، فلم يتم الاتفاق حتى الآن على تحويل مرفق الاستقرار المالي الأوروبي إلى مؤسسة دائمة، وهو مصمم بحيث يكون بعيداً عن الفيدرالية قدر الإمكان، وحين يتعلق الأمر بشراء البنك المركزي الأوروبي لسندات الحكومات، فلن نجد أحداً يفهم على وجه التحديد إلى متى، ولأي غرض ينبغي لنا أن نستخدم هذا السلاح الجديد، وهذا يؤدي إلى تقليص فعاليته، وفي الوقت عينه، كانت المقترحات المطروحة بتقييم الموازنات الوطنية من قِبَل الاتحاد الأوروبي قبل تبنيها سبباً في إثارة الانتقادات في فرنسا وغيرها، وهو ما يخدم كأداة لتذكيرنا بالمسافة القائمة بين الأصوات المنادية بالتنسيق والقبول الفعلي للآثار المترتبة عليه.

لقد بدأ الأوروبيون بتجميع أحجار البناء الجديد، ولكن من دون الاتفاق مسبقاً على حجم وتصميم ذلك البناء، وفي الوقت الحالي يعطي الأوروبيون الانطباع وكأنهم كانوا يلقون بأكياس الرمل بلا نظام في محاولة لوقف الموجة. وهذا من شأنه أن يجعل من المتشككين الفئة الحقيقية التي يتعين على صناع القرار السياسي في أوروبا أن يحاولوا إقناعها، ولقد آن الأوان لكي نتقبل حقيقة مفادها أن هؤلاء الذين يمولون حكومات الاتحاد الأوروبي عن طريق شراء سنداتها من حقهم أن يطرحوا أسئلة غير مريحة وأن يتوقعوا إجابات واضحة.

* جان بيساني فيري | Jean Pisani-Ferry ، أستاذ بكلية هيرتي للحوكمة (برلين) ومعهد العلوم السياسية (باريس) وهو يشغل حالياً منصب المفوض العام لإدارة الاستراتيجية الفرنسية، وهي مؤسسة استشارية سياسية عامة.

«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top