ما يجري اليوم على الساحة اليمنية لم يأت من فراغ، حسب مراقبين، بل نتيجة إلى تراكم سياسات وصفت بـ «الخاطئة»، وعزز ذلك سوء الإدارة، ومركزية القرار، وإقصاء لشركاء إعادة تحقيق الوحدة اليمنية في مايو 1990. حدث الوحدة الحلم الذي سبقه ورافقه ولحقه سيل من الأحداث نستعرضه في حلقتنا الأولى من ملف الجنوب اليمني، ونسلط الضوء فيه على إرهاصات الحلم الوطني، وأبرز الأحداث التي شكلت ملامح أزمة اليوم.

Ad

يقول سائق التاكسي طارق، 50 عاماً من أبناء مدينة عدن، إن الهتافات العالية والشعارات المعادية التي ترددها عناصر ما يعرف بـ «الحراك الجنوبي» تؤرق نظام صنعاء، إلا أنها لا تعني الكثير لأبناء مدينة عدن على وجه الخصوص، لانشغالهم بشؤونهم اليومية التي ألهتهم عن ذواتهم.

يمر طارق بسيارته يومياً من النفق الواصل بين مديريتي التواهي والمعلا في عدن، وهو ذات النفق الذي أبرمت فيه ارتجالا صيغة اليمن الجديد قبل التوقيع على اتفاقية الوحدة اليمنية أواخر الثمانينيات، حين طرح رئيس الجمهورية العربية اليمنية حينئذ علي عبدالله صالح أثناء زيارته لمدينة عدن، على حكومة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية إقامة حكم فدرالي ودولة اتحادية، إلا أن أمين عام الحزب الاشتراكي اليمني حينذاك علي سالم البيض فاجأه بإقامة وحدة اندماجية، بحسب شهادة نائب الأمين العام لحزب اتحاد القوى الشعبية المعارض وأستاذ العلوم السياسية في جامعة صنعاء الدكتور محمد عبدالملك المتوكل، في حديثه لـ «الجريدة».

الطريق إلى الوحدة

لم يكن الطريق إلى يوم الثاني والعشرين من مايو 1990 -يوم إعادة تحقيق الوحدة اليمنية- مفروشاً بالورود بالنسبة لليمنيين الذين عانوا طويلاً ويلات الحروب بين الشطرين فترة تنكر النظامين السياسيين فيهما لالتزامهما قضية الوحدة الوطنية. وشهدت الدولتان الجارتان توتراً حاداً نتج عنه 3 حروب حدودية بسبب الاختلافات الايديولوجية بينهما والفارق الحضري، كما يحلو القول لكثير من المهتمين. وتم وقف العمليات العسكرية في أعنف المواجهات مطلع السبعينيات من القرن الماضي اثر تدخل جامعة الدول العربية.

ولعلّ التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدها الواقع اليمني خلال هذه الفترة، إضافة إلى التدخل الشيوعي في اليمن الجنوبي، وعدم الاستقرار السياسي وتجاذب المصالح بين القوى المختلفة في شمال اليمن وتأثير القوى الإقليمية والدولية، أدت مجتمعة إلى توتر الأوضاع، وفي الوقت نفسه أدت إلى تقارب النظامين في صنعاء وعدن.

كان نظام الحكم في شمال اليمن أقرب إلى الرأسمالية ومنسوجاً من تحالف ثلاثي ضم العسكريين والقبائل والإسلاميين، بينما كان في الجنوب قائماً على نظام الحزب الواحد، وهو الحزب الاشتراكي اليمني الذي يتبع المعسكر الاشتراكي. استمرت سياسة التعايش السلمي بين النظامين أكثر من أربع سنوات بعد استقلال الجنوب من الاستعمار البريطاني الذي استمر نحو 137 عاماً، وبعد جلاء آخر جندي بريطاني من عدن في 30 نوفمبر 1967. وإذا كان نظام صنعاء اليوم قد أفلح في إقصاء الإسلاميين، فإن القبيلة والعسكريين مازالا يتحكمان في مفاصل الدولة جنوباً وشمالاً. كانت أولى الخطوات العملية في اتجاه الوحدة في الرابع من مايو 1988، عندما تم السماح للمواطنين في الشطرين بالتنقل بين البلدين بالبطاقة الشخصية، وتم في مطلع يوليو 1988، إلغاء النقاط الأمنية المتمركزة على الحدود بين البلدين.

وواكبت الجهود النهائية في طريق الوحدة اليمنية، تغيرات دولية ملحوظة، خصوصاً ذلك التقارب الذي حدث بين القطبين السوفياتي والأميركي، وتوجه الدول الشيوعية في الكتلة الشرقية إلى التخلص من أنظمتها الشمولية، وغيرها من الأحداث، مما جعل الأجواء في البلدين تتجه نحو جدية عالية في تحقيق التغير السلمي في بناء دولة الوحدة. تلك العوامل كما أشارت دراسة للدكتور عبدالعزيز الشعيبي الأستاذ في جامعة عدن، ساهمت في التسريع بالخطوات نحو إعادة تحقيق الوحدة الوطنية.

صراعات داخلية

في شمال اليمن كما في جنوبه، لم يكن هناك استقرار سياسي وتشابهت الحياة السياسية بينهما لكن أحداثها اختلفت، كما ذكر الباحث اليمني محمد حسين الفرح في كتابه «معالم عهود رؤساء الجمهورية». وبحسب الفرح، فقد شهد الشمال صراعاً على السلطة منذ فجر ثورة سبتمبر 1962، كان محصلتها نفي رئيسين خارج البلاد في انقلابين أبيضين واغتيال رئيسين آخرين، ليأتي بعد ذلك الرئيس علي عبدالله صالح في 17 يوليو 1978.

الانقلابات والصراعات على السلطة في الشمال كانت أقل دموية وعنفاً عن مثيلاتها في جنوب اليمن، الذي شهد دوامات عنف متعددة كان أولاها الانقلاب على أول رئيس لدولة الجنوب قحطان الشعبي في 1969، وذلك بعد قرابة 6 سنوات من ثورة أكتوبر 1963 في الجنوب، ومقتل ونفي ثلاثة رؤساء آخرين، حتى انفجرت «أحداث يناير» عام 1986، والتي راح ضحية لها عدد من قيادات الدولة والحزب، بمن فيهم الأمين العام للحزب والرئيس الأسبق عبدالفتاح إسماعيل. كما أسفرت تلك الأحداث عن مقتل حوالي 12 ألف من كوادر الحزب وجرح قرابة 20 ألفاً آخرين، بالإضافة إلى نزوح عشرات الآلاف من المواطنين من أنصار الرئيس الأسبق علي ناصر محمد، المقيم حالياً في سورية.

اتفاق الوحدة

كانت أحلام اليمنيين في القطرين بإقامة وحدة وطنية قد دفعت النظامين نحو اتفاق تعز في نوفمبر 1970، الداعي إلى إقامة اتحاد فدرالي بين الشطرين، والذي تلاه اتفاقية القاهرة في 13 سبتمبر 1972، وانتهاءً باتفاقية صنعاء في 4 مايو 1988، وما تلاها من مفاوضات واتفاقات. وكان من نتائجها إعلان الوحدة الاندماجية في 22 مايو عام 1990، وذلك عقب اتفاق عدن التاريخي في 30/11/1989، بين قيادتي الشطرين، إذ تم التصديق على الدستور الذي تم إعداده منذ عام 1981. كما تم التوجه للاستفتاء عليه شعبياً، والمضي في الانتخابات التشريعية (للسلطة التشريعية الموحدة)، وتشكيل لجنة للإشراف على الانتخابات، ودعوة جامعة الدول العربية لإرسال مندوبيها لمراقبة الانتخابات.

في الاجتماع الثاني للجنة التنظيم السياسي الموحد الذي عقد في عدن يوم 10 يناير 1990، تم إقرار مبدأ التعددية السياسية من خلال الموافقة على (البديل الثاني) الذي ينص على احتفاظ الحزب الاشتراكي (في الجنوب) وحزب المؤتمر الشعبي العام (في الشمال) باستقلاليتهما، وحق القوى السياسية في ممارسة نشاطاتها بكل حرية وفقاً للدستور في ظل اليمن الواحد.

وفي اجتماع صنعاء يوم 22 يناير1990، صدر عدد من القرارات في الجوانب الاقتصادية والمالية والإعلامية والثقافية والتربوية والتشريعية والشؤون الخارجية، والتمثيل الدبلوماسي والقنصلي والتصورات، بشأن دمج الوزارات والمؤسسات والمصالح.

الجمهورية اليمنية

في يوم 22 مايو 1990، تم في مدينة عدن توقيع اتفاق إعلان الجمهورية اليمنية، وتنظيم الفترة الانتقالية من قبل زعيمي الشطرين، إذ نص الاتفاق على قيام وحدة اندماجية كاملة بين دولتي الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، تذوب فيها الشخصية الدولية لكل منهما في شخص دولي واحد هو «الجمهورية اليمنية» ويكون لها سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية واحدة. بعد نفاذ هذا الاتفاق يُكون مجلس رئاسة الجمهورية اليمنية لمدة الفترة الانتقالية ويتألف من خمسة أشخاص ينتخبون من بينهم في أول اجتماع لهم رئيساً ونائباً للرئيس.

وحددت الاتفاقية فترة انتقالية مدة سنتين وستة أشهر، ويتكون مجلس النواب خلال هذه الفترة من كل أعضاء مجلس الشورى ومجلس الشعب الأعلى، بالإضافة إلى 31 عضواً يصدر بهم قرار من مجلس الرئاسة، ويمارس مجلس النواب كل الصلاحيات المنصوص عليها في الدستور عدا انتخاب مجلس الرئاسة وتعديل الدستور.

ويروي عضو مجلس الرئاسة السابق سالم صالح محمد، (عن الحزب الاشتراكي)، في مذكراته أنه تم اختيار الرئيس علي عبدالله صالح رئيساً لمجلس الرئاسة في الجمهورية اليمنية وعلي سالم البيض نائباً للرئيس، عندما اجتمع مجلس الشورى ومجلس الشعب، وكيف أسندت تلك المهمة للشيخ سنان أبولحوم، أحد أبرز المشايخ في شمال البلاد، الذي ترأس ذلك الاجتماع نظراً لكونه أكبر الموجودين سناً.

شهدت الفترة الانتقالية وضع الأسس الدستورية والقانونية لدولة الوحدة، إذ تم الاستفتاء على دستور الوحدة في منتصف مايو 1991 ليصبح نافذاً بعد ذلك بعد أن كانت السلطات المختلفة تستمد شرعيتها من اتفاقية إعلان قيام الجمهورية اليمنية وتنظيم الفترة الانتقالية، وهي فترة تدخلت فيها مشاعر الإنجاز أكثر فأثرت على متطلبات المرحلة.

وهنا يقول المحامي المعروف في عدن شيخ طارق عبدالله في حديثه لـ «الجريدة»، إنه اقترح الصيغة الفدرالية لمنظومة الحكم في اليمن الجديد في سلسلة مقالات نشرها عقب إعلان الوحدة، وهو ما تطالب به اليوم كثير من الأحزاب السياسية، أبرزها حزب رابطة أبناء اليمن (رأي) الذي انطلق من عدن في خمسينيات القرن الماضي.

وبينما يعزو المحامي القانوني الصيغة التي قامت عليها الوحدة حينئذ إلى الاندفاع العاطفي من كل أبناء الشعب اليمني في الشمال والجنوب تجاه الوحدة الوطنية آنذاك، إلا أنه قال إن «دستور الوحدة (القائم) غير مناسب، واليمن الموحد يمكن أن يستقر ويتقدم ويدوم فقط في حالة انتهاج النظام الفدرالي».

التعددية

شهدت الفترة الانتقالية ظهور الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والصحافة الحزبية والأهلية. وكان أبرز الأحزاب التي تأسست خلال الفترة، ثم لعبت في ما بعد أدواراً سياسية مهمة هو «التجمع اليمني للإصلاح»، الذي أعلن قيامه في سبتمبر 1990. وقد جاء تأسيس «حزب الإصلاح» من أجل القيام بدور سياسي مساند

لـ»حزب المؤتمر الشعبي العام» في مواجهة شريكه «الحزب الاشتراكي اليمني»، بحسب شهادة الراحل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، رئيس مجلس النواب السابق والرئيس المؤسس لـ «الإصلاح» في مذكراته. وأكد الأحمر أن الرئيس صالح طلب منه عقب قيام الوحدة هو وحلفاؤه من القوى الإسلامية، تشكيل حزب سياسي يكون رديفاً لحزب «المؤتمر الشعبي العام»، وذلك «بغرض معارضة الاتفاقات الثنائية التي أبرمها الرئيس صالح مع حليفه في تحقيق الوحدة: الحزب الاشتراكي اليمني الممثل للجنوب، من أجل تعطيل تلك الاتفاقات وعدم تنفيذها».

يذكر أن هذه الشهادة أثارت ضجة في الأوساط السياسية والثقافية عقب صدور مذكرات الشيخ الأحمر قبل رحيله بأشهر قليلة.

سياسة التربص

أستاذ السياسة في جامعة صنعاء عبدالله الفقيه قال لـ»الجريدة» إن «كلا من المؤتمر والاشتراكي عملا خلال الفترة الانتقالية على توظيف الموارد العامة للدولة، بما في ذلك الوظيفة العامة لتعزيز مواقعهما وتحقيق مكاسب في الانتخابات البرلمانية الأولى، فظهرت أحزاب وصحف وجمعيات ترتبط بهذا الحزب أو ذاك. كما تم إثقال كاهل الخزينة العامة بعشرات (إن لم يكن بمئات) الآلاف من الموظفين الوهميين، رغم الفارق الكبير بين عدد السكان في الشطرين لمصلحة الشمال».

ويضيف الفقيه: «اتصفت العلاقة بين المؤتمر والاشتراكي خلال الفترة الانتقالية بالتوتر الشديد في معظم الأوقات، ويمكن رد ذلك التوتر إلى الصراع الشديد بين الحزبين على السلطة، وإلى سعي كل طرف إلى تهميش الآخر»، وذلك كإرث قديم من فترة ما قبل الوحدة، لذا لوحظ أن الحزبين رغم إعلاناتهما المتكررة بإتمام توحيد جميع المؤسسات بما في ذلك القوات المسلحة، فقد ابقيا على الجيش والأجهزة الأمنية والإعلامية مشطرة.

 وكانت أسوأ مظاهر الخلاف موجة الاغتيالات والتفجيرات التي استهدفت قيادات وأعضاء في الحزب الاشتراكي، وهو ما أدى إلى تعميق الفجوة بين شريكي الوحدة، وتبادل الاتهامات لما يجري من فوضى في البلاد.

كل تلك الظروف شكلت تحديات كبيرة بين يدي الدولة اليمنية الجديدة، مما جعل أداء أول حكومة يمنية يتسم بالضعف الشديد. ومع انتهاء الفترة الانتقالية جرت أول انتخابات في تاريخ اليمن تقوم على قاعدة التعددية الحزبية، وذلك في 27 أبريل عام 1993. وقد أسفرت الانتخابات عن ظهور ثلاث قوى سياسية على الساحة هي بالترتيب: المؤتمر الشعبي العام وقد حاز 123 مقعداً، والتجمع اليمني للإصلاح (62 مقعداً)، ثم الحزب الاشتراكي وقد حصل على 56 مقعداً. وإذا كان فوز المؤتمر والاشتراكي قد مثل تحصيل حاصل فإن ظهورا لإصلاح كقوة سياسية جديدة قد مثل أبرز إفرازات تلك المرحلة.

الائتلاف والاختلاف

بحسب الدكتور الفقيه، اتسمت المرحلة التالية لانتخابات أبريل عام 1993، بتشكيل حكومة ائتلافية من ثلاثة أحزاب هي المؤتمر والإصلاح والاشتراكي، وإلغاء مبدأ القسمة على اثنين بالتساوي الذي كان معمولاً به خلال الفترة الانتقالية. وقد تم الإلغاء لسببين: الأول، هو دخول شريك جديد في السلطة، والثاني هو النتائج المتواضعة التي حققها الحزب الاشتراكي في الانتخابات التي اقتصرت بشكل عام على دوائر الجنوب الذي كان لايزال تحت سيطرة الحزب إلى حد كبير.

وساعدت عوامل محلية وإقليمية على تصعيد الصراع بين المؤتمر والاشتراكي، أهمها التدهور الاقتصادي الذي ترتب على طرد ما يقارب المليون يمني من السعودية، وعلى قطع المساعدات التي كانت تتدفق على اليمن –عقب حرب الخليج الثانية، والإبقاء على القوات المسلحة وأجهزة الأمن والإعلام مشطرة. وأسهم الموقف الدولي من الأزمة الذي اتسم باللامبالاة إلى حد كبير في إنجرار الأطراف اليمنية نحو مستنقع حرب أهلية في مايو 1994.

اتسمت الفترة التالية لحرب 1994 بإخراج الحزب الاشتراكي من السلطة وتشكيل حكومة ائتلافية (في 6 أكتوبر 1994) من حزبي المؤتمر والإصلاح، لكن شهر العسل بين الحزبين لم يدم طويلا، ففي حين رأى الإصلاح نفسه الوريث الشرعي لحصة الاشتراكي في السلطة، رأى المؤتمر في زيادة قوة الإصلاح خطراً ينبغي العمل على تجنبه.

إعلان الانفصال

أعلن البيض انفصال الجنوب عن الشمال في 21 مايو 1994، ونصب نفسه رئيساً للدولة الجديدة، والتي لم تحظ إلا باعتراف جمهورية أرض الصومال، والتي لم يكن أحداً قد اعترف بها أصلا. بالنسبة للدول المجاورة الداعمة للاشتراكي فقد لاقت حرجاً كبيراً في الاعتراف بالدولة الانفصالية، لكن المجتمع الدولي وفي مقدمته الولايات المتحدة شجّع فكرة طرح الموضوع على مجلس الأمن الدولي الذي ارتأى أن الاعتراف بالدولة الانفصالية سيؤدي إلى تطويل الحرب التي اندلعت بين الشطرين، مع ما يمكن أن تجلبه من مخاطر على الاستقرار في المنطقة.

ومع ان الحرب لم تدم إلا سبعين يوماً فإنها أدت إلى خسائر فادحة تكبدها اليمنيون في الأموال والأرواح. ولعل أبرز الخسائر بعد الأرواح تمثلت في الدمار الذي لحق بالتسلح اليمني والذي يجعل بعض المحللين يذهبون إلى القول، إن تلك الحرب الأهلية الخاطفة قد حققت أهداف القوى الإقليمية والدولية في القضاء على ترسانة الأسلحة اليمنية التي كانت تقلق تلك القوى كثيراً.

النصر والهزيمة

انتهت الحرب بهزيمة قوات الحزب الاشتراكي (قوات الاصطفاف الوطني) وانتصار ما أطلق عليه الرئيس صالح «قوات الشرعية الدستورية» والقوى الحليفة، وفي مقدمتها جماعة «الإخوان المسلمين» – حزب «الإصلاح»، التي أعلنت «الجهاد المقدس» ضد عناصر الحزب الاشتراكي. وتم بذلك الحفاظ على الوحدة اليمنية ولكن بثمن باهظ. وكنتاج طبيعي فقد أعقبت الحرب أعمال نهب وسلب للمرافق والممتلكات العامة والحزبية في المدن الرئيسية خصوصاً في جنوب البلاد، لاسيما بعد فرار قادة الاشتراكي إلى الدول المجاورة.

إلا أن أكثر القرارات كلفة على اليمن اليوم تسريح آلاف العسكريين والمدنيين ممن اتهموا بمناصرة مشروع الانفصال، وهؤلاء هم من أطلقوا شرارة ما يعرف بـ»الحراك الجنوبي»، فضلاً عن توزيع أراض شاسعة كانت أممتها دولة الجنوب على أصحابها لقادة عسكريين ونافذين من أبناء الشمال والجنوب.

ورغم إسهام الرئيسين صالح والبيض في تسريع مشروع الوحدة، ولا يختلف اثنان في اليمن على ذلك، فإن إعلام صنعاء الرسمي قام –بعد حرب صيف 1994- بقص صورة البيض من جوار الرئيس صالح وهما يوقعان اتفاق الوحدة، وأثناء رفع علم اليمن 1990 في عدن، وهو أمر اثار حفيظة الطبقة السياسية والمثقفة في البلاد عموماً.

وختاماً، فإن ذلك النصر وتلك الهزيمة ولدا صدعاً ظل مغموراً لأكثر من عقد، إلا أنه ظهر للعيان الآن بسبب سوء إدارة البلاد وتكرار السياسات الخاطئة، وارتفاع منسوب الفقر في عموم اليمن، في ظل شعور متزايد بالإقصاء والحرمان من الحق في السلطة والثروة، بين أبناء الجنوب على وجه الخصوص، وهو ما أدخل البلاد في نفق أطول، حسب مراقبين.

تواريخ أساسية

• 26 سبتمبر 1962: أطيح بالحكم الإمامي في شمال اليمن، وأعلنت الجمهورية العربية اليمنية وعاصمتها صنعاء.

• 14 أكتوبر 1963: انطلقت ثورة أكتوبر ضد الإنكليز وأعلنت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية – عاصمتها عدن، التي حصلت على استقلالها الكامل في 30 نوفمبر 1967، مع رحيل آخر جندي بريطاني.

• 13 يناير 1986: حدثت مجزرة بين قيادات اليمن الجنوبي في ما كان يسمّى «جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية»، تحت مظلة «الحزب الاشتراكي اليمني»، وكانت بين كل من القادة الموالين للشمال برئاسة علي ناصر محمد وبين الجناح اليساري الذي يتزعمه علي سالم البيض والرئيس السابق عبدالفتاح إسماعيل.  وتحوّلت المجزرة إلى حرب أهلية تواجه فيها رفاق الأمس عبر القبائل التي ينتمون إليها، قبائل أبين من جهة وقبائل الضالع من جهة أخرى، وراح ضحية لها أكثر من 12 ألفاً أغلبيتهم من المدنيين، فضلاً عن إصابة وتشريد عشرات الألوف، معظمهم اتجهوا شمالاً بمن فيهم الرئيس علي ناصر محمد الذي أقام ما يقرب من أربع سنوات في صنعاء ثم غادر إلى سورية ولايزال مقيماً فيها حتى اليوم.

• 30 نوفمبر 1989: وقع الرئيس علي عبدالله صالح باسم الجمهورية العربية اليمنية والرئيس علي سالم البيض باسم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية اتفاقية الوحدة، وبموجبها رفع الزعيمان علم الجمهورية اليمنية على سارية القصر الجمهوري في عدن صبيحة 22 مايو 1990.

• لم تلبث العلاقة بين الجانبين على حالة الوئام لأشهر، حتى خاضادوامة خلافات مرتبطة بالترتيبات المطلوبة لدمج المؤسسات الشطرية خصوصاً القوات المسلحة، وبلغت الأزمة ذروتها بعد انتخابات مجلس النواب عام 2003، إذ جاء الحزب الاشتراكي في المرتبة الثالثة بعد حزبي المؤتمر الشعبي العام، حزب الرئيس، وحزب الإصلاح الإسلامي الحليف القوي للرئيس حينئذ.

• في فبراير 1994، وقع الطرفان وثيقة العهد والاتفاق في العاصمة الأردنية عمان برعاية الملك حسين، نصّت على مجموعة من الإصلاحات السياسية، أبرزها تحديد صلاحيات الرئيس ونائبه، وإخراج المعسكرات من المدن.

• في أبريل 1994، اندلعت شرارة الحرب الأولى من محافظة عمران شمالي اليمن عندما اشتبك لواءان عسكريان أحدهما شمالي وآخر جنوبي. قتل في المواجهة عشرات الجنود والضباط ودمرت العديد من المعدات بينها دبابات وأسلحة ثقيلة.

• في مايو 1994، اشتعلت حرب ضارية بين قوات الرئيس علي عبدالله صالح وقوات الحزب الاشتراكي بقيادة علي سالم البيض، وعشية الذكرى الرابعة لتحقيق الوحدة (21 مايو) أعلن البيض الانفصال من طرف واحد وكان إعلاناً بفشل الوحدة بين الشمال والجنوب.

• استمرت المواجهات بين الطرفين حيث رفع الرئيس صالح شعار «الوحدة أو الموت»، وانتهت في 7 يوليو من نفس العام وكانت الحصيلة مروعة، حيث قتل وجرح في الحرب أكثر من عشرة آلاف شخص مدنيين وعسكريين.  وبينما كانت قوات الرئيس صالح تطبق على عدن كان علي سالم البيض والمئات من القيادات الجنوبية المدنية والعسكرية يومها يغادرون إلى المنفى، وخرج على إثر ذلك الحزب الاشتراكي من السلطة، واعتزل الحياة السياسية سنوات عدة.

• في 7 يوليو أيضاً، أعلنت السلطات في صنعاء إنهاء العمليات العسكرية ووجه القائم بأعمال رئيس الحكومة الراحل محمد سعيد العطار رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة التزم فيها احترام الحكومة اليمنية للتعددية السياسية والحزبية وتنفيذ الإصلاحات السياسية ووثيقة العهد والاتفاق، والعفو العام عن جميع المشاركين في الحرب: سياسيين وعسكريين.

في الحلقة الثانية

تركِّز الحلقة الثانية من ملف جنوب اليمن، على ما يُعرَف بـ«الحراك الجنوبي» ومرحلة ظهوره، ومناطق نشاطه في المحافظات الجنوبية. كما تتناول الحلقة الآليات التي انتهجتها حكومة صنعاء في التعامل مع مشاكل الجنوب، ومواجهة فعاليات «الحراك» المطالبة بالانفصال.