لاتزال محادثات جنيف النووية بين إيران ومجموعة الدول الست الكبرى، تفرز تداعياتها وتفعل فعلها في تطور سير العلاقات بين طهران من جهة، والمجتمع الغربي عموما، وبين طهران وواشنطن خصوصا من جهة أخرى.

Ad

فبعد أن استطاعت طهران فرض ما يمكن تسميته بالردع الدبلوماسي المتبادل بينها وبين واشنطن عبر رزمة مقترحاتها التي فرضتها كجدول أعمال لذلك الاجتماع، انتاب الأميركيين شعور بالإحباط تجاه فشل خطتهم التي كانت معدة لتكون محطة جنيف الفرصة الأخيرة أمام طهران، وإلا فإن سيف العقوبات سيقطع الرقاب.

في محطة جنيف في الأول من أكتوبر، حيث كانت الساعة تعمل على التوقيت الإيراني لأول مرة، استطاع المفاوض الإيراني العنيد والبارد أيضا إلى درجة التجلد، أن يفرض نوعا من معادلة تكافؤ فرص العرض والطلب بينه وبين المجتمع الغربي.

ففي الوقت الذي رفضت فيه طهران أن تناقش موضوع ملفها النووي منفردا مع مجموعة الست الكبرى، أي بمعزل عن سائر ملفات المنطقة الساخنة والمتداخلة مع ملفها النووي، فقد فاجأت الغربيين بأنها مستعدة لشراء اليورانيوم المخصب بنسبة عشرين في المئة من أي بلدان الغرب، بما فيها الولايات المتحدة الأميركية، ولمدة تزيد على العشرين عاما، وذلك كبادرة حسن نية تحمل في طياتها تطمينات إضافية، كذلك إلى أن برنامجها لا يحمل أي طموحات عسكرية، ما جعل كل دولة من المجموعة يسيل لعابها لهذا الإغراء المفاجئ.

هذا الهجوم الدبلوماسي والسياسي الإيجابي غير المرتقب كان الدافع وراء طلب وليام بيرينز لقاء سعيد جليلي على انفراد، وهذا بدوره دفع بالمفاوضين الروسي والصيني، ولو من باب الفضول، أن يطلبا لقاءات منفردة مع المفاوض الإيراني، وذلك من أجل الاطلاع على حقيقة ما أراده الأميركي على انفراد، وهكذا حصل مع الأوروبيين أيضا.

الأميركيون وبعد استفاقتهم من صدمة جنيف، بدؤوا بالسعي الحثيث وبكل ما يملكون من جهد بإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل تلك المحطة، وذلك تحضيرا لاجتماعات التاسع عشر من أكتوبر الحالي المقررة في فيينا، وحتى لا يتحول الاجتماع الجديد إلى إنجاز إيراني إضافي من جهة، وألا تخرج واشنطن كذلك منه خالية الوفاض كما حصل في محطة جنيف من جهة أخرى.

كل الحراك الدبلوماسي الأميركي الذي نشاهده في هذه الأيام وكذلك التصريحات الأميركية المحذرة من «انقضاء الوقت والمهلة» إنما يأتي في هذا السياق، وكل الكلام حول أن الغرب موحد تجاه إيران، وأنه بصدد اتخاذ إجراءات جديدة وفعالة تجاهها إن لم «تمتثل» للقرارات الدولية وما إلى ذلك من كلام، إنما يقصد منه الإيحاء بأن واشنطن لم تخسر الرهان بعد، وأن زمام المبادرة لايزال بيدها رغم كل ما حصل.

وهذا ليس صحيحا بالطبع، فزمام المبادرة قد انتقل عمليا إلى يد طهران رغم أنف أميركا، ومجموعة الست الكبرى ليست موحدة لاسيما بعد الرفض الصيني والروسي المعلن، كما أن واشنطن لم تعد تملك ما يخيف أو يربك طهران بعد أن لعبت بكل أوراقها في الاضطرابات الأخيرة التي تورطت فيها في أعقاب انتخابات الرئاسة الإيرانية.

والملف بشكل عام بات بين طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية أكثر مما هو بينها وبين الدول الست الكبرى، لاسيما بعد واقعة الكشف عن منشأة «فردو» النووية الجديدة الشديدة التحصين تجاه أي قصف صاروخي أو جوي كان والقريبة من مدينة قم المقدسة.

والعقوبات الاقتصادية الجديدة بما فيها الحظر على التعاملات البنكية أو حظر بيع البنزين باتت أكثر بعدا عن الواقع العملي من أي يوم مضى بعد الإغراءات الإيرانية المتزايدة بهذا الخصوص لأكثر من طرف دولي.

والصراع على المصالح بين أطراف المجموعة في ظل الضعف والهوان الأميركيين المتزايدين، وانطلاق سباق التنافس فيما بينهم على النفوذ والأدوار في ظل عالم يزداد تعقيدا في التعددية القطبية، كلها أمور تجعل أمر التهديد والوعيد لطهران من الماضي، ولا معنى له كما تحاول واشنطن أن توحي بعكس ذلك، فإن لجأت إلى أي من خياراتها التهديدية فإنها ستكون أول وأكبر الخاسرين بلا تردد، وبالمقابل فإن طهران تزداد ثقة بأن ما هو بيدها من إنجازات بات خارج المفاوضات، ناهيك عن كونه خارج المقايضات.

وعليه فإن ما يحصل في المشهد الدولي العام على خط الشد والجذب الإيراني الأميركي ليس سوى محاولة أميركية للتقليل من قدرات المفاوض الإيراني المتنامية في اجتماع فيينا المقبل.

في هذه الأثناء استطاعت القيادة الإيرانية العليا بالإضافة إلى تعزيز قدراتها الدفاعية الصاروخية وغير الصاروخية، استعادة وحدة القيادة في الداخل أيضا وإعادة ترتيب بيتها الداخلي الذي كان بدا وكأنه قد تصدع بعض الشيء بعد أحداث الانتخابات الرئاسية الأخيرة، الأمر الذي يدفعها لتكون أكثر حزما في محطة فيينا من محطة جنيف.

وأما إذا ما أخذنا بالاعتبار ما يجري للأميركيين وشركائهم في حلف الأطلسي في شرق الحدود الإيرانية فإن الأمر سيبدو أكثر سوءا للمفاوض الأميركي مما تقدم.

من كل ما تقدم نستطيع أن نفهم لماذا يقول أحمدي نجاد إن الأميركيين سيكونون هم أكثر المتضررين هذه المرة من أي فشل لمحادثات فيينا، بل إننا نكاد نقرؤها على أنها أشبه بالتحذير مما هو أسوأ للأميركيين، إن لم يكن تصويرا لمعادلة باتت مقلوبة هذه المرة يظهر فيها الإيراني هو من يتحدث عن الفرصة الأخيرة والذهبية المتاحة أمام الغربيين وليس العكس بتاتا.

* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء