يكذب الأميركيون ومعهم إعلامهم الإمبراطوري، بالتهويل علينا بأنهم نجحوا في تطويق إيران أكثر فأكثر، وأنهم كسبوا كلا من روسيا والصين إلى جانبهم بشكل نهائي، وأن طهران باتت في عين العاصفة النووية، ولم يبق أمام الأخيرة سوى التسليم لما بات يطلق عليه بالإجماع الدولي ضدها.

Ad

ويكذب الأميركيون كذلك إذا ما أرادوا أن يسوقوا اتفاق «ستارت» الجديد مع غريمهم ومنافسهم الروسي على أنه نوع من الانتصار الكاسح للسياسة الأميركية ضد كل من يغرد خارج سرب المحور الأميركي–الإسرائيلي.

وكما تؤكد الأحداث والوقائع الكبرى المتلاحقة فإن النفوذ الأميركي يتراجع، وإن نجم واشنطن الإمبراطوري يأفل، رغم كل استعراضات التظهير الإعلامي لقوة أسلحتها الاستراتيجية المنتشرة حول العالم، بما فيها تلك الإيحاءات المضللة التي أرادت واشنطن تمريرها في سياق توقيعها لمعاهدة «ستارت» الجديدة مع موسكو في العاصمة التشيكية براغ.

ولنبدأ من براغ باعتبارها الحدث الأبرز كما تحرص إمبراطورية الإعلام الأميركي وتوابعها على تسويقه للعالم، لنسأل عن المغزى الأساسي في السياسة لهذا الحدث أولا؟ وهل صحيح أن أميركا صادقة في نيتها في التخلص من أسلحة الدمار الشامل؟ ومن ثم هل هي المنتصرة هنا فعلا، وأنها هي من أتت بروسيا إلى مربعها أم العكس؟

 أولا: يكفي لانعدام صدقية الجبارين في مجال نزع سلاحهما النووي التنبيه إلى أن ما احتفظا به من مخزون غير منتشر هو كاف وحده لتدمير الكرة الأرضية عدة مرات، وأن ما اتفقا عليه إنما يقع رغما عنهما، وذلك للاتفاق على قواعد الردع النووي المتقابل بينهما لا أكثر.

 ثانيا: من ناحية ثانية فإن ثمة من يعتقد بقوة أن روسيا هي من أكرهت أميركا على التوافق المذكور، وأنها بالتالي هي من أرادت تقييدها في هذا الاتفاق، سواء فيما يخص مشروع درعها الصاروخية الشهيرة أو من حيث ربط طرق واشنطن اللوجستية إلى أفغانستان بإرادة العاصمة موسكو، أو من حيث إبعاد الأميركيين عن ساحة أوروبا وإبقائهم غارقين في أوحالهم العراقية والأفغانية والشرق أوسطية عموما.

 ثالثا: وإذا ما أضفنا إلى ذلك بأن هذا الحدث التوافقي بين القوة العظمى والقوة الصاعدة إنما جاء مترافقا مع دخول قوي للثانية على الحديقة الخلفية للأولى في كل من فنزويلا وبوليفيا في إطار عقود تسلحية واستراتيجية ضخمة من جهة، وانفراط عقد سلسلة مواقع النفوذ التابعة للثانية في الحديقة الخلفية التابعة للأولى من جهة أخرى، والتي بدأت بأوزبكستان ومرت بأوكرانيا وتوجت أخيرا بقرغيزستان، فإن ما يمكن استنتاجه في الواقع ببساطة هو أن واشنطن هي القوة المتراجعة هنا أمام ما بات يطلق عليه بصحوة الدب الروسي.

رابعا: إن اتفاق «ستارت» الجديد يعني في السياسة كما في العسكرية أن الرأي العالمي الذي يضغط على نزع التسلح النووي، وعدم إشاعته فضلا عن منع استخدامه حتى كسلاح ردعي في العلاقات الدولية، هو الذي نجح في هذه الاتفاقية على حساب المنهج الأميركي الذي لطالما لوح به خلال عصر الحرب الباردة وما بعدها ولايزال.

وأما فيما يخص التوافق المزعوم حول ملف إيران النووي، فلمن لم ينتبه أو يتنبه نسجل له ما يلي:

 أولا: لقد كان الرئيس الروسي واضحا عندما وضع مسافة بينه وبين زميله الأميركي بالقول إنه يختلف معه حول الهدف من مبدأ العقوبات التي ينبغي أن تكون هادفة إلى «إيقاظ» إيران وجلبها للتعاون، وليس إجراء العقوبات من أجل الانتقام، ومن ثم في نوع العقوبات التي قال إنها ينبغي أن تكون «ذكية» ولا تضر بالشعب الإيراني، والأهم من ذلك كله إشارته بالقول إلى أن بلاده تتعاطى مع هذا الملف من زاوية الأمن القومي الروسي، وهنا بيت القصيد في الخلاف الروسي الأميركي حول إيران، ذلك أن روسيا المحاطة من كل مكان بالأخطار الجيواستراتيجية، ومنها ذلك المحيط المختزن للإرهاب في آسيا الوسطى والقوقاز يكفيه عاملان فقط لإشاعة الفوضى في كل روسيا، بأن ترخي إيران حدودها مع تلك الديار أو أن تتقدم واشنطن خطوة نوعية باتجاه زعزعة استقرار إيران، وهذا ما لن تجازف به موسكو بسهولة.

ثانيا: واستنادا إلى النقطة الأخيرة فإن هذا يعني أن روسيا لن تسمح مطلقا للأميركيين بتمرير عقوبات قد تؤدي إلى شل الاقتصاد الإيراني مطلقا، ليس حبا بإيران بالطبع، ولكن حفاظا ودفاعا عن سياقات الأمن القومي الروسي، وهو ما تعرفه وتدركه إيران جيدا وتضعه في الميزان.

ثالثا: إن روسيا، ورغم كل ما يقال عن مواكبتها للأميركيين في تشديد الحصار على إيران، تقوم حاليا بتدريب الخبراء الإيرانيين على منظومة الدفاع الجوي الروسية «س 300» في مقدمة لتحويلها للجانب الإيراني قريبا حسب الاتفاق المبرم، وهي كذلك ملتزمة بإطلاق العمل في محطة بوشهر النووية في الصيف القادم حسب المواعيد المعلنة.

رابعا: إن موسكو وبكين تمتلكان رؤية استراتيجية للعالم مختلفة تماما عن واشنطن، عبرا عنها من خلال مبادرات دولية عديدة في مجال الطاقة والأمن والتعاون الدولي، وفي طليعتها مبادرة مؤتمر شنغهاي للأمن والتعاون، وهي منظمة تضم إلى جانب دولتيهما عددا من دول آسيا الوسطى والقوقاز، وهما تعملان على ارتقاء كل من الهند وباكستان وإيران إلى هذه المنظمة من صفة الناظر إلى مرتبة العضوية الكاملة فيها، على طريق جعل هذه المنظمة أداة موازية في الأهمية إن لم تكن البديلة للأمم المتحدة، كما يتداول الروس والصينيون ذلك في الأروقة الخلفية في إطار طموحهما في إعادة صياغة معادلة جديدة للعالم.

 من جهة أخرى، ولما كانت إيران قد وطنت نفسها على التعامل مع العقوبات الاقتصادية من جهة، ولما كانت الدول التي تفرض العقوبات هي أول من يخرقها كما أعلن أردوغان أخيرا، لحاجتها الماسة إلى السوق الإيرانية، وليس حبا بإيران بالطبع، فإن روسيا في موقفها المعلن من العقوبات إنما تبيع أميركا عمليا عصافير في الهواء، فيما هي تكبل أميركا بسلسلة من القيود التي تجعل كل طرق إمداداتها واحتياجاتها في الشرق الأوسط الموسع أميركياً تمر عبر موسكو أو حلفائها.

نعرف أن ثمة من سيقول إن موازين القوى هذه متغيرة، وهي لن تبقى دوما لمصلحة إيران، وإنه لا وجود لصداقات دائمة في العالم، وإن المصالح قد تتغير، وهو ما تعرفه إيران جيدا، لكن ما نهدف إليه هنا هو فضح المخطط الإعلامي الذي تسعى من ورائه واشنطن إلى تصوير نفسها فيه وكأنها المالكة لرقاب العالم، وأنها القوة الزاحفة، وأن الدول الأخرى تتداعى أمامها الواحدة بعد الأخرى، وبالتالي فإن «حبل المشنقة» يضيق على إيران يوما بعد يوم، وأنه لم يبق أمام طهران سوى التسليم بالشروط الأميركية بعد أن تخلى العالم كله عنها.

بالتوازي مع ذلك نريد أن نقول لمن لايزال يشك بالقدرة الإيرانية على المواجهة فضلا عن الصمود، إن طهران من جانبها وإن كانت تهتم بقراءة تناقضات الآخرين وتداعيات ذلك على السياسة الأميركية والصهيونية تجاهها، إلا أنها لا ترسم بالمقابل استراتيجيتها وسياساتها العامة في هذا الملف بناء على هذه العوامل والعناصر الخارجية فحسب، بقدر ما هي تراهن على ما يلي:

أولا: إن لدى إيران إجماعا وطنيا وقوميا فريدا من نوعه فيما يخص ملفها النووي يصعب كسره في أصعب أو أحلك الظروف، وقد تأكد ذلك مراراً حتى الآن بما فيه زمن المراهنة الكونية على الحرب الناعمة التي خيضت ضدها خلال الأشهر العشرة الماضية التي أعقبت انتخابات الرئاسة الإيرانية الأخيرة.

ثانيا: ثمة توطين كامل للتكنولوجيا النووية بات محرزا من الجانب الإيراني على كل الصعد الممكنة، سواء من حيث المعرفة أو من حيث العنصر البشري، ما يجعل طهران تقترب من الاكتفاء الذاتي في هذا المجال بأسرع مما يتصوره أحد على الإطلاق، وما أعلنه يوم الجمعة المنصرم من إنجاز هو الأول من نوعه في مجال تأمين الوقود النووي من جانب دولة عالم ثالثية لتشغيل مفاعل طهران للأغراض السلمية يقفل الباب نهائيا على فاعلية أي حصار في هذا السياق.

ثالثا: يعتقد صانع القرار الإيراني جازما أنه بات يمسك بكل خيوط اللعبة الثابتة منها والمتغيرة التي تضمن له الدخول إلى النادي النووي للطاقة السلمية، أيا يكون شكل ومضمون المتغيرات التي قد تطرأ من حوله، سواء على مستوى الإقليم أو على مستوى العالم، وبالتالي فهو يتعامل معها بإرادة سياسية صلبة وحازمة تحصنه من الرضوخ للاستفزاز فضلا عن الابتزاز في هذا الملف، وهو بالتالي يقدم نموذجا مختلفا تماما عن النموذج الكوري فضلا عن العراقي ناهيك عن النموذج الليبي.

* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة