حديقة الانسان: اقوال فتى الإرسالية

نشر في 05-06-2009
آخر تحديث 05-06-2009 | 00:01
 أحمد مطر قال: لو كنا نملك أحذية لصحّ القول بأنّ رجال الإرسالية الأميركية كانوا يحتذون بقدومنا إلى الدرس... لكننا، يا ابن عمي، كنا نذهب إلى الدرس حفاة، وأعتقد أنهم لهذا السبب كانوا يحتفون بقدومنا.

قال: تعلمنا جيداً آداب المائدة: السكين إلى يمين الصحن، والشوكة إلى يساره، والمنديل على أفخاذنا.

كان علينا أن نشرب الحساء بهدوء خالص. وكنا نفعل ذلك بمهارة، فالصحون فارغة والعملية كلها تمثيل، والأسهل من ذلك أننا كنا نقطع الفراغ بالسكين، ونتناول شرائحه بالشوكة.

وعقب ثلاث ساعات من أكل الهواء، مرة بعد مرة، نكافأ بكعكة أصغر من ظفر الإبهام، ما إن يفتح الواحد منا فمه لالتهامها حتى تكون قد غافلت أسنانه وانزلقت إلى معدته مباشرة.

قال: كنا أيتاما، وأسوأ ما في يُتمنا هو أنّ لنا آباء وأمهات، وأسوأ ما فيهم هو أنهم أيتام أيضاً... جميعنا أيتام وطن حبيب. أما مبعث السوء، يا أخي في الآه، فهو أنهم كانوا يحسدوننا على حظوتنا بتلك الكعكة. ولذلك فقد كنا قبل عودتنا، نحاول تلطيخ أنفسنا بالأوساخ طردا لغائلة الحسد، لكن مشكلتنا الأزلية هي أننا لا نجد في كل أجسادنا بقعة واحدة نظيفة تستحق التوسيخ.

قال: العلم خيبة... صدقني. فما الذي استفدناه من تعلم آداب المائدة؟ لا الكعكة في الإرسالية ساعدتنا على تطبيق الآداب، ولا بيوتنا ساعدتنا على تطبيق المائدة. أكون محظوظا إذا رمت لي أمي رغيفا كاملا في حجري، وتكون بطرة مسرفة إذا دثرت به رأس فجل... ومع ذلك أتذمر بقباحة: يا للتخلف! أتريدينني أن أقطع الخبز والفجل بالسكين، وأن أتناولهما بالشوكة؟!

وترد بتذمر أقبح: كلا... أريدك فقط أن تبلعهما بالسم.

وقبل أن أتسمم أنتبه إلى نقص فادح في الآداب فأصرخ: والحساء؟ كيف أشرب الحساء دون ضجة؟ لا يوجد صحن!

يأتيني حجر في صدري قبل صوتها: ولا يوجد حساء أيضا... تسمّمْ.

وأتسمم يا أخي.

قال: علمونا في الإرسالية أن علينا أن نلتزم بوصايا ربنا يسوع المسيح، وقلنا بصوت واحد: يا جماعة... المسيح ليس ربنا المسيح نبي.

عندئذ صفعونا وحرمونا من الكعكة... وبعد أن تبنا أعطونا الكعكة.

وقلنا لآبائنا اليتامى إن علينا الالتزام بوصايا ربنا يسوع، فصفعونا وحرمونا من الخبز والفجل. وبعد أن تبنا أعطونا الخبز وصادروا الفجل.

قال: في نهاية العام، ولمناسبة عيد الميلاد، أقاموا لنا حفلة، واختبرونا بما تعلمناه، فأثبتنا للمائدة آدابها وليسوع ربوبيته، وأثبتوا لنا أن الكعك سيوزع في نهاية الحفلة.

أطفئت الأنوار لبرهة، ثم أشعلت من جديد.

صحنا كعادتنا عند اندلاع النور: صلوات على محمد وآل محمد.

وحينئذ، ذقنا لأول مرة في حياتنا طعم الأحذية... فبسرعة غريبة منح كل واحد منا حذاء لامعا ممتلئا بقدم بالغة تتصل بساق غليظة لأحد رجال الإرسالية.

وعدا طعم تلك الأخذية على مؤخراتنا، لم نتذوق شيئا ذلك المساء، وعدنا إلى بيوتنا بلا كعك ولا دين!

قال: أكرر، دائما كلمة بيوتنا، وبصراحة... لا سبب لهذا إلا أنني لا أعرف وصفا آخر لهذه الأماكن التي نقيم فيها.

بيتنا كان عبارة عن أربع قصبات وقطعة خيش متهرئة... إنه الجنة: سقفه السماء كلها، ومصابيحه النجوم، وبابه الهواء. وفي الشتاء خصوصا.. كانت تجري من تحته الأنهار. لو فكر لص بالسطو على بيتنا، فإن أفظع عقوبة له هي أنه فكر بالسطو على بيتنا... سيكون محظوظا إذا استطاع الفرار بلباسه الداخلي، بعد أن نسلبه جلبابه.

قال: بعد طردنا من الإرسالية، انهمكت في الطب، أصيبت عيناي بالتراخوما، فنقلوني إلى المستوصف الوطني، ولمّا كان الممرض المسؤول بيطريا، ولما كان قد باع دستة الأسبرين الوحيدة التي بذمته لكي يسكر، فقد تم نقلي إلى مستشفى الإرسالية على ظهر حمار طاعن في الجوع... وقبل أن نصل، دهمتنا سيارة الإرسالية فمات أحدنا وتهشمت عظام الآخر، ولا أتذكر أيّنا الذي مات!

وعندما خرجت من المستشفى مشلولا وأعمى، منحنى الوطن الحبيب قطعة أرض لأستثمرها وأعيش منها.

قال: تسألني لماذا أتوا بي إلى هنا؟

لم تكن المسألة سوى نزاع على ذلك العقارالذي منحني إياه الوطن الحبيب، لكنها تحولت إلى قضية سياسية.

عينُ جاري المالحة كانت لا تغفل عن بلاطتي. لم يكن قانعاً ببلاطته مثلي. نمرود وطمّاع... ومنتهى أمانيه أن يقف متسولا على بلاطتين.

وحين علم أنني في طفولتي كنت أتردد على الإرسالية الأميركية، بادر إلى إبلاغ الحكومة التي بادرت بدورها إلى مراجعة تاريخي- على الحاسوب- فوجدته ناصع السواد، وقررت أنني جاسوس وخائن وعميل للأميركان.

بصراحة... أعجبتني هذه الألقاب، وعضضت على التهمة بكل أسناني التي لم تسقط بعد، وقلت لهم: صح.

إنّ أفضل غصن في شجرة عائلتنا لم يحظ، بعد الجهد، إلا بوظيفة زبّال. وها أنا فجأة، وبضربة حظ عجيبة، ومن غير جهد، وبرغم شللي وعماي، أجد نفسي جاسوساً!

آه... أكاد أسمع أوراق الشجرة تهتز من شدة الفخر.

قال: وأنت... ما الذي أتى بك إلى هذه الزنزانة؟

قلت: كتبت مقالاً أنتقد فيه وجود القواعد الأميركية في بلادنا، فاعتبرته الحكومة تهديداً للأمن القومي، وإساءة غير محمودة العواقب لحلفاء الوطن الحبيب

* شاعر عراقي

back to top