يا... الله هذا إبداع يطفر بدمع العين، ويغمس الروح بالشجن، ويدفع بالأحاسيس إلى مجرات غامضة في كنهها، ومشاعر ممسوكة بالتلبس ما بين معان صعب تفسيرها وتبويبها في قوالب واضحة، لأنه بكل بساطة لا حدود للفن المبدع، المسيطر، المتملك والقابض.

Ad

لا تملك إلا أن تقول الله من نشوة الإبداع، من عمل يمس شغاف القلب بإنسانيته العميقة المرهفة، ومن التمكن في فن صياغة الرواية بكل هذه المقدرة المتحكمة تماما في إنجاز رواية، تسكن في الروح والعقل والقلب في قبضة واحدة.

وهذه هي سمة الفن العظيم، يقبض على القارئ، لا يسمح له بالفرار أو بالشرود، أو بالملل، ولا بالمرور المسح على الصفحات كي نخلص منها.

الفن العظيم هو فن أناني، لا يسمح إلا بتملك القارئ، والسيطرة عليه بالكامل، لأن الكتابة التي تسرح القارئ، وتسمح له بالانفلات منها، هي كتابة رديئة، أو متوسطة أو يعني ما بين البينين.

من هذه الكتابات العظيمة جاءت رواية «السمكة الذهبية» للروائي الحائز على جائزة نوبل 2008 (ج . م . لوكليزيو) التي عندما قرأتها استغربت لجوء الكاتب إلى هذا الشكل التراتبي الشائع في كتابة الرواية، وكنت قد قرأت له في السابق رواية «الربيع وفصول أخرى» وكانت كتابة مدهشة، ولكنه اتبع في كتابة رواية السمكة الذهبية أسلوبا تراتبيا في الحكاية التي تدور كلها بصوت واحد طوال الرواية، وهو صوت بطلتها وحده من دون أي أصوات أخرى مصاحبة لها، أو حتى تقنيات غرائبية، حداثية صادمة، ولكن نص لوكليزيو جاء محملا بحداثة تناول الفكرة، طريقته في التفكير، وفي نقل الأحداث والتعبير عنها في نقلات سريعة، تراتبية لكنها تأتي في نقلات سريعة لمشاهد معينة، مختارة من حياة البطلة التي رسم شخصيتها بامتياز مدهش، قدرة رهيبة في نحتها وتجسيدها في لحم ودم، حتى أنها قاسمتني غرفتي وروحي، واستقرت بي إلى الأبد حالها حال شخصية المحبوبة لتوني موريسون، وهذه قدرات غير عادية في نحت الشخصية الروائية، لدرجة أشعرتني بأنه لم يكتبها بل هي من كتبت عنها.

الشخصية فلتت منه وجمحت على الورق بحرية رهيبة، بلا رقيب أو تكبيل أو قيود، وتركته في حياد تام، يتأملها وهي تعيش قدرها حتى ثمالته، وحتى أني كقارئة شعرت بالغيظ من صعلكتها ومن تصرفاتها الغبية، والمنفلتة من رسن الخوف والحسابات كلها، كانت بالفعل سمكة يحملها التيار بلا أي تخطيط أو هدف.

رائع خلقه ونحته لشخصيتها، ولعالمها الغائص في البؤس، عالم المهاجرين والمشردين، والمهمشين في قاع المدن، هؤلاء الذين نخاف منهم عندما نمر بهم، نجزع من قذارتهم، وروائح سكرهم وأجسادهم المغروزة في المخدرات.

لوكليزيو غاص في عالمهم، بإنسانية تجرح الروح وتبتئسها، رشنا بأوجاعهم، نثر ملحا حامضا على إنسانيتنا المتفرجة والمعطوبة في صدق فعاليتها.

لوكليزيو، كان جراحا بارعا، ونطاسيا عظيما في عمله، خاصة في اختياره هذا الشكل التراتبي وبالصوت الواحد، فعمق الأحداث فوحدتها لا تتحمل التشتيت، وتتطلب تركيز وعي القارئ بالكامل حول إنسانية الشخصية، وتقلباتها العبثية، العابرة من نهرها الصغير إلى المحيط الكبير، مثل سمكة تسير بقدرية مع التيار.