تحية للقاضي اليهودي
اتهام إسرائيل وإدانتها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ومن قبل قاض يهودي، هو سابقة تبعث الأمل في الضمير الإنساني العالمي. القاضي اليهودي الجنوب إفريقي، رئيس اللجنة الأممية لتقصي الحقائق في قطاع غزة التابعة لمجلس حقوق الإنسان، ريتشارد غولدستون عبّر عن «صدمته وحزنه الشديدين» بعد عودته من غزة في رحلته للتحقيق في الانتهاكات التي ارتكبتها إسرائيل على قطاع غزة في الحرب الوحشية التي راح ضحيتها ما يقارب ألفاً وأربعمئة فلسطيني معظمهم من المدنيين. ويقول غولدستون إن «غياب العدالة المستمر يقوض أي أمل في عملية سلام ناجحة ويرسخ المناخ الذي يشجع أعمال العنف».
وقد طالب غولدستون كلا من إسرائيل و»حماس» «بإجراء تحقيقات نزيهة ومستقلة لبحث ما جاء في التقرير، وفي حال لم يفعلوا هذا في غضون ستة أشهر، فسيحال التقرير إلى المحكمة الجنائية الدولية». وهي المحكمة التي أنشئت في 2002 من أجل محاكمة مجرمي الحرب لارتكابهم جرائم الإبادة والقتل والتهجير، والتي حاكمت الرئيس الليبيري والرئيس اليوغسلافي، كما قدمت مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني البشير الذي اتهم بارتكاب أعمال قتل جماعية، وخمس جرائم ضد الإنسانية منها؛ القتل والإبادة والترحيل القسري والتعذيب والاغتصاب، وجريمتي حرب... وهو ما عارضته للأسف القوى القومية والإسلامية في إعلانها رفض الشرعية الدولية، متذرعين بححج التدخل في الشؤون الداخلية، ومتباكين على إهانة الكرامة العربية ومتناسين ومتجاهلين قتله أكثر من 200 ألف شخص، وتشريده 2.5 مليون في دارفور تعرضوا للاغتصاب والتجويع والترهيب حسب القاضي أوكامبو... فليذهب جميعهم إلى الجحيم وليقتلوا بدم بارد من أجل سلامة وكرامة البشير، ذلك الحاكم الذي حكم بالحديد والنار واستخدم الدين في إحكام قبضته على الشعب وقمعه لأي فكر مختلف وقطع أيدى الجوعى من الفقراء، وهو الذي حول السودان إلى ملجأ آمن للميليشيات الإرهابية، كالجنجاويد وجماعة بن لادن التي اتخذت من السودان مقراً لها لإقامة التدريبات العسكرية الإرهابية، وها هي «حماس» التي تتخذ نفس الوسائل العنيفة والعدوانية تتناسى أنها معنية أيضا في هذا التقرير وتتجاهل أنها لن تسلم من يد العدالة الدولية فيما اقترفته من وحشية وعنف وإراقة الدماء. ويأتي اليوم القوميون والإسلاميون ليغيِّروا موقفهم من الشرعية الدولية فيما يتعلق بالتقرير الذي يدين الفظاعات الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل. وقد يقول قائل إن سياسة أميركا وبعض الدول الأوروبية تقوم أيضا على ازدواجية المعايير في وقوفها ضد محاكمة إسرائيل، ونقول نعم هي تكيل بمكيالين، ولكن الفرق بيننا وبينهم، وهو ما يغيب عنا كثيراً، أن مجتمعاتهم المدنية مجتمعات حيّة تؤمن بحقوق الإنسان ومنظماتهم الحقوقية منظمات واعية ونشيطة تسعى إلى الكشف عن الجرائم والانتهاكات وتبادر بإثارتها واتخاذ إجراءات حيالها، وهي التي ساهمت بشكل فعال في الدفع بهذه القضية وغيرها.فعلى سبيل المثال لا الحصر، استنكار بيان مشترك وقعته ثلاثون منظمة أوروبية في بروكسل لطلب تأجيل السلطة الفلسطينية البحث في تقرير غولدستون الذي يدين إسرائيل (حيث واجهت السلطة ضغوطا وتهديدات بوقف إسرائيل المفاوضات السياسية إن لم تقم بسحبه)، والذي قال عنه البيان إنه «شكّل سابقة خطيرة وتنكراً لدماء الضحايا في غزة». كما أثار هذا التأجيل انتقاد واستنكار منظمات حقوقية كثيرة من ضمنها «منظمة العفو الدولية»، واعتصم الكثير احتجاجا على قرار التأجيل. بالإضافة إلى ذلك، قامت منظمات حقوقية وجماعات من المحامين الأوروبيين بإعداد «قوائم مطلوبين» من الضباط الإسرائيليين بهدف ملاحقتهم ومقاضاتهم واعتقالهم في حال قدموا إلى أوروبا، ليحذو هؤلاء حذو المحامي دانيال ماكوفر الذي استطاع استصدار أمر من محكمة بريطانية باعتقال قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي اللواء دورون ألموغ لشبهته في ارتكاب جريمة حرب أثناء اغتيال قيادي في حركة «حماس» و15 مدنياً آخرين في صيف عام 2002. فقد طلب السفير الاسرائيلي من اللواء ألموغ حال وصوله إلى مطار لندن العودة فوراً على نفس الطائرة إلى تل أبيب وإلا تم اعتقاله في الحال.هكذا يكون الاستحقاق الأخلاقي والإنساني، فتحية لهذه المنظمات الإنسانية، وألف تحية للقاضي اليهودي غولدستون.