... لا تعبثوا مع العسكر!!
تشهد البلاد منذ فترة حواراً وسجالاً حول انحراف العمل التشريعي فيها، الذي يصل إلى حد العبث بالبناء القانوني للدولة، ويمس أحياناً حتى استقرار مؤسساتها الدستورية، ولكن لم يكن متصوراً أن يصل هذا الانحراف إلى المؤسسة العسكرية التي تمثل ضمانة أمن المجتمع والحفاظ على وحدته واستقراره، وهو ما شهدناه عندما أقر مؤخراً مجلس الأمة في المداولة الأولى ما سمي بقانون إعفاء أو إطلاق لحى العسكريين، وهو عمل يمثل تطاولاً وعبثاً مع المؤسسة العسكرية بكل صنوفها، لا يجوز السكوت عنه أو السماح له أن يقر ويصبح نافذاً.
فلم يسبق في أي بلد متحضر أن كانت قواعد الانضباط العسكري وشؤونه الفنية القتالية تصدر من السياسيين بقوانين، وهو أخطر ما يمكن تصوره على قوة نظامية مسلحة، عندما يحصل العسكريون على امتيازات في شؤون الانضباط والربط من خارج مؤسستهم العسكرية ورغماً عن قادتهم، فتفقد تلك القيادة هيبتها وقوة قرارها، الذي يجب أن يتعود جميع الأفراد بكل رتبهم ومسمياتهم على الانصياع له في جميع الأحوال وفي أقسى الظروف، أما التبريرات التي قدمها بعض النواب بأن القانون جاء لمعالجة تسرب بعض الضباط واستقالتهم من القوات المسلحة، بسبب رغبتهم في إعفاء لحاهم (وهو كلام مرسل لا تدعمه أي إحصائيات أو بيانات رسمية)، فهي تبرير ضعيف وواه، لأنه إذا عالجنا هذا السبب فيجب أن نعالج كل أسباب الآخرين ممن يتركون الخدمة لأنهم على سبيل المثال لا يريدون الذهاب إلى معسكرات الجيش في الأماكن النائية، فهل نصدر تشريعاً يلزم نقل كل معسكرات الجيش إلى داخل الديرة أو تأجيل الاصطفاف الصباحي إلى أن يصلوا إلى معسكراتهم البعيدة بقانون... حتى لا يتركوا الخدمة العسكرية؟! حقيقة الأمر بعيداً عن التبريرات الواهية والأسباب المصطنعة، أن هناك أجندة سياسية لقوى الإسلام السياسي منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، تتمثل في إعطاء كل مناحي الحياة في البلاد وجهاً يمثل الإسلام كما يرونه، ونجحوا في ذلك إلى حد بعيد، رغم خسائر المجتمع الفادحة في جميع المجالات، وتردي أوضاع الكويت على جميع الصعد، فحولوا المصارف إلى ما يدعونه النظام المصرفي الإسلامي، الذي يكلف العميل أضعاف ما يكلفه النظام المصرفي التقليدي، وفرضوا بالشعارات الدينية أنفسهم على الحياة التربوية والجامعية، فحولوها إلى مسخ دون إبداع أو تطوير، وسيطروا بالمقايضات السياسية على القيادات الوسطى في جهاز الدولة الإداري والخدمي، فشاعت الفوضى وانتشر الفساد وتردي الخدمات العامة، واليوم يلعبون بالنار عبر جس النبض بهذا القانون للدخول والاستيلاء على المؤسسات العسكرية التي تمثل السور الواقي للبلد الذي لا يجب بأي حال من الأحوال أن تدخله ألاعيب السياسة ومنافستها أو التمييز العرقي والمذهبي عبر المظهر الخارجي للضباط والأفراد أو أي رمز من الرموز، ولنا عبرة في ما شهدته دول كثيرة في العالم العربي وخارجه من كوارث، عندما دخل العسكر إلى ميدان السياسة والحكم، بسبب زجهم في منافسات الأحزاب والتنظيمات السياسية والدينية وصراع أيديولوجياتها ومصالحها السياسية. لذا فإن كل مؤمن بالدولة المدنية الدستورية وما تقدمه من ضمانات لكل أطياف المجتمع لتوفير السلم الاجتماعي، يتطلع إلى موقف حازم من الحكومة والنواب المدركين لخطورة هذا القانون، عبر الوقوف بشكل صارم في وجه أي تشريع يتدخل في عمل المؤسسات العسكرية وشؤونها الانضباطية وقرارات قياداتها المحقة، ورد الحكومة على الفور أي قانون يتناول شؤونها الداخلية في حال إقراره، دون صفقات أو مفاوضات لتنفيذ مضمونه عبر قرارات داخلية في الجيش والشرطة... لأن العبث مع العسكر له أثمان فادحة لا يمكن لبلد صغير، وفي إقليم متوتر مثل الكويت تحمل كلفته.