النظام الإيراني بين فكي كماشة

نشر في 16-08-2009 | 00:00
آخر تحديث 16-08-2009 | 00:00
 ياسر عبد العزيز ليس أسوأ من اعتبار أن «الأزمة الإيرانية التي تتفاعل راهناً ليست إلا نتيجة مباشرة لتدخل خارجي من قوى دولية تريد قلب النظام»، سوى محاولة نفي أي دور للخارج في الصراع الدائر في الجمهورية الإسلامية، واعتبار هذا الصراع تطوراً داخلياً محضاً تم بمعزل عن الإرادة والفعل الخارجيين تماماً.

فثمة العديد من الدلائل التي تؤكد أن الصراع الحاد الدائر في إيران حالياً يجد الكثير من الدوافع الداخلية، وأنه يعبر عن تنازع إرادات وانقسام حقيقي في نخبة القيادة، وتضارب مصالح عميق، واختلاف في الرؤى ظاهر، وتباين واسع في الأساليب، إلى الحد الذي يغذي دوائر الاحتجاج، ويكرس الاضطراب، ويبقي المتظاهرين أسابيع في الشوارع.

وفي المقابل، تظهر أدلة عديدة أن العامل الخارجي كان حاضراً، ولو على استحياء، في إبراز الصراع الداخلي ورصده والترويج له وربما تطويره، ورغم أنه لا يبدو أن هناك ما يشير إلى دور دولي أو إقليمي في خلق الاضطرابات نفسها حتى اللحظة الراهنة، فإنه لا يوجد ما يمنع اعتبار هذا الاحتمال أمراً وارداً على أي حال، بالنظر إلى تحولات سابقة جرت في عدد من الدول ولم يتسن الكشف عن الأصابع الخارجية وراءها إلا بعد مرور عدد غير قليل من السنوات وأحياناً العقود.

وبالطبع سيكون من السهل دائماً تفهم مواقف السلطات الإيرانية ومؤيديها في الداخل وأنصارها المنتشرين في عدد من الدول العربية، وهي المواقف التي لم تر في التطورات الحاصلة في الجمهورية الإسلامية سوى محاولة من «قوى الاستكبار العالمية» و«أعداء الثورة في الغرب» لزعزعة الدولة وقلب النظام، كما سيكون يسيراً أن نستوعب مواقف بعض العواصم الغربية الرئيسة التي نأت بنفسها تماماً عما يحدث في الداخل الإيراني، واعتبرت بإصرار أن الاضطرابات الراهنة ليست سوى احتجاج واسع من المعتدلين وأنصار الديمقراطية والانفتاح والحداثة على تزوير الانتخابات وحكم الملالي.

لكن ما لا يمكن تفهمه بسهولة هو انقسام التعليقات والتحليلات والافتتاحيات والتقارير والتغطيات الخبرية للأحداث الأخيرة في إيران بالصورة ذاتها؛ وهو عمل لا ينم فقط عن انحياز وتمترس سياسي طال الأنشطة التحليلية والإعلامية المنوط بها التمتع بقدر من الحياد والرؤية المحيطة، ولكنه يشير كذلك إلى استخفاف كبير بعقل الجمهور. ويقوم هذا الاستخفاف على تجاهل حقيقة واضحة في التحليل السياسي، تتعلق باستحالة استبعاد العاملين الداخلي والخارجي، أحدهما أو كليهما، في مقاربة الأحداث الإيرانية الأخيرة، أو الفصل بين التأثيرات الداخلية والخارجية الفاعلة في أزمة تشهدها دولة بحجم إيران بمشكلاتها الضخمة واشتباكها الدائم بالواقعين الإقليمي والدولي واستئثارها بقدر كبير من اهتمام العالم والإقليم بما تثيره من احتمالات ومخاطر. داخلياً، بدا نظام «ولاية الفقيه» المرتكز أساساً على السلطة الدينية لكبار الملالي وقد تحول إلى شبه دكتاتورية عسكرية تعول كثيراً على الدعم الذي تتلقاه من القوة الصلبة المتمثلة في الجيش وميليشيات «الباسيج».

لم تتعرض سلطة خامنئي يوماً لما يزعزعها ويهز هيبتها كما حدث في أعقاب إصراره على دعم نجاد وتمسكه بنتائج الانتخابات المثيرة للجدل وتحديه للمطالبات بإعادتها والكف عن قمع المتظاهرين وجرهم إلى المحاكمات.

وبات عدد القادة الدينيين الكبار الذين ينتقدون المرشد علناً قريباً من عدد أصابع اليدين، بل إن مرجعاً دينياً معتبراً مثل بيات زنجاني راح يلمح إلى أن خامنئي «فقد شروط القيادة»، كما وجه مجمع ممثلي الشعب في مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) في الدورات السابقة، والذي يضم أعضاء البرلمان السابقين منذ العام 1980، رسالة إلى رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني، طالبوا فيها بـ«فتح تحقيق في عمل خامنئي».

وذهب أحمد صدر جوادي، وهو أول وزير عدل في تاريخ الجمهورية الإسلامية، وقد عمل محامياً لخامنئي في زمن الشاه، ذهب إلى القول إن المحاكمات التي تجري للمحتجين والمعارضين على خلفية التظاهرات الأخيرة «غير قانونية». وشكك كثيرون من أقطاب النظام والمعارضين في البيانات الرسمية التي تحصي عدد القتلى والجرحى وفي ما أعلنته السلطات بخصوص مقتل عناصر من «الباسيج» خلال المواجهات، وهو الأمر الذي دفع عدداً من أعضاء البرلمان إلى المطالبة بإعلان أسماء قتلى «الباسيج» التسعة المزعومين.

ورغم عدم الإفصاح علناً عن تحدي سلطة خامنئي من قبل موسوي وكروبي أبرز الخاسرين في الانتخابات، فإن إصرارهما، ومعهما خاتمي ورفسنجاني، على عدم القبول بالنتائج واعتبار الانتخابات «غير شرعية» يعد تحدياً واضحاً لخامنئي الذي لم يسلم حتى من محاولة نجاد تحديه بعدم الامتثال لقراره بإبعاد رحيم مشائي مستشار رئيس الجمهورية ومدير مكتبه.

الآلاف من المتظاهرين يتدفقون على شوارع طهران يوماً إثر يوم، وبعضهم يلقى حتفه قمعاً وتدافعاً، وآخرون يقتادون إلى المحاكمات، ورفسنجاني يرفض نتائج الانتخابات، وخاتمي ينضم إلى موسوي وكروبي في التنديد بها، وعدد من «آيات الله» يصرون على إعادتها، وبعض المراجع يطالب بفتح تحقيق في عمل المرشد، ويشكك في توافقه مع شروط القيادة، وتصريحات وتقارير عن «اغتصاب معتقلين ومعتقلات» بالسجون، يقابلها نفي رسمي مع الاعتراف بوجود «تجاوزات وانتهاكات»، وتقارير تنسب لمشائي قوله إن «نجاد لم يحصل سوى على أربعة ملايين صوت»، وغيرها من الإشارات التي توضح حجم الانقسام الداخلي.

لا يمكن أن يسفر التدخل الخارجي المحض عن هذا الحجم الكبير والطيف الواسع من الاعتوار والخلل في بنية النظام، ومن غير المقبول القول إن هذا التقلب والتصارع ونقض ما اعتبر، لعقود ثلاثة، من الثوابت التي لا تقبل المس، ليس سوى تحريض من الخارج.

ثمة خلل عميق اعترى الجمهورية الإسلامية، وهذا الخلل وجد طريقه للتعبير عن ذاته بعد عقود من التكتم والانغلاق والكبت، لكن الإنصاف يقتضي القول إن إيران التي مدت أصابعها لتعبث باستقرار العراق وأفغانستان والبحرين والسعودية واليمن ولبنان ومصر وصولاً إلى المغرب، تتعرض كذلك لتأثيرات خارجية تستهدف إذكاء الاضطرابات داخلها وتحويلها، إن أمكن، إلى «ثورة مخملية»، أو تصعيد الضغط على النظام من خلالها، لتليين مواقفه في الملف النووي.

فقد عمدت واشنطن ولندن وباريس وغيرها من العواصم الغربية الرئيسة إلى عدم تهنئة نجاد بفوزه بالانتخابات، كما شككت في نتائجها، وهو موقف يبدو غريباً خصوصاً إذا ما قورن بمواقف تلك الدول من أنظمة أخرى في العالم تمارس انتهاكات للحرية بأضعاف ما يفعل النظام الإيراني.

وبات واضحاً أن الاتحاد الأوروبي يدعم المتظاهرين علناً ويؤيد الاضطرابات الشعبية فضلاً عن عدم الاعتراف بإعادة انتخاب نجاد، كما ظهر في البيان الذي أصدرته السويد التي تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد. وإضافة إلى ما نُشر عن اعتراف بعض موظفي السفارات الغربية بالمشاركة في أنشطة راصدة أو مؤججة للاضطرابات، فإن فرنسا اعترفت رسمياً بأنها أبقت أبواب سفارتها في طهران مفتوحة لإيواء المتظاهرين الهاربين من السلطات الإيرانية، فضلاً عن قبول طلباتهم للجوء السياسي، فيما اعترفت واشنطن بدعمها للمتظاهرين ورغبتها في أن يستمر صمودهم.

يبدو واضحاً، وبما لا يدع مجالاً للشك، أن النظام الإيراني لم يعد يتمتع بالتماسك والهيبة التي كان عليها قبل انتخابات يونيو الماضي، بل إنه فقد كذلك القدرة على ادعاء الطهر الثوري والتمسك بالقيم، وبات معرضاً، أكثر من أي وقت مضى، لإمكانية الاختراق والزعزعة والتحلل.

على أن هذا التطور لم ينجم فقط عن اعتوار داخلي وتفاعل محلي محض على خلفية تضارب المصالح وتصارع الإرادات، ولكنه ينجم أيضاً عن دور خارجي يصعب تحديد حجمه في الوقت الراهن.

وإذا كان هذا التطور لم يفصح بعد عن أقصى تداعياته على الجمهورية الإسلامية، فإنه على الأقل أخبرنا بأن نظامها ليس على المنعة والقوة والقيمة التي يدعيها لنفسه ويروج لها البعض.

* كاتب مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top