أطلق على مجلس الأمة الكثير من الأوصاف، منها أنه مجلس تأزيمي ومجلس يعيق التنمية، ومجلس فخار يكسر بعضه بعضاً، ومثل هذه التعليقات تعكس حالة، الاختلاف سواء بين البرلمان والحكومة من جهة أو الأعضاء أنفسهم على الجانب الآخر.

Ad

فأثناء فترة الاستجوابات، ورغم أنها من أدوات المساءلة الدستورية، تقوم القيامة السياسية ويتهم المجلس أو بعض نوابه بأنهم يجرّون البلد نحو هاوية المجهول، أو ينفذون أجندات خاصة، أو يفتعلون الأزمات لحل مجلس الأمة، كي يضمنوا استعادة كراسيهم.

وأثناء مناقشة بعض القضايا الخلافية والتصويت على القوانين التي تتعارض فيها وجهات النظر نسمع العجب العجاب في التحليل السياسي وتفسير المواقف، فلا تنتهي قائمة الاتهامات والشكوك في النوايا وتخطئة وتسفيه الرأي الآخر، بل يتم التسلح بالدستور والشرع والمبدأ في كل الاتجاهات بغية توافر الغطاء الذي يبرر كل موقف، وهذا ما عكسته تجربة القروض قبل حوالي أسبوعين.

ولكن في المقابل تكاد التعليقات السياسية والتحليلات النقدية تختفي عند كتّاب الرأي وفي المنتديات وفي الدواوين عندما يتم التصويت على بعض القوانين ليس بإجماع أعضاء مجلس الأمة، بل بالاتفاق الكامل بين البرلمان والحكومة، فالتصويت التاريخي على مشروع قانون الخطة الخمسية وبإجماع السلطتين مر مرور الكرام، لم يلتفت أحد إلى أهمية هذا التشريع ولا إلى الطريقة السياسية التي تم خلالها التصويت، وقبل ذلك تم إقرار قانون المعاقين في مداولته الأولى، وفي الجلسة الأخيرة تم التصويت على قانون هيئة سوق المال أيضاً بالإجماع في المداولة الأولى.

فالأعضاء هم نفس الأعضاء والوزراء هم نفس الوزراء، قد يختلفون إلى حد المواجهة، وقد ينسجمون تماماً تبعاً للموضوع، بل قد يختلف شكل المسرح السياسي بين ليلة وضحاها، وهذا النوع من الأداء يمثل في الحقيقة جوهر الديمقراطية والتعددية الفعلية حيث تتفاوت في ظلها مساحات الخلاف والالتقاء ونقاط التصادم أو الوئام.

وعلى الرغم من أن هذا السلوك السياسي سمة طبيعية في جميع الديمقراطيات ودلالة على تعددية المجتمع واختلاف الأداء وتباين المواقف تبعاً لمجموعة من العوامل منها التفاوت الثقافي والاختلاف الطبقي والتنوع الفكري والفروقات المناطقية وغير ذلك، وعلى الرغم من أن الجميع يدرك هذه الحقيقة، فإن ساحتنا السياسية لم تعد تستوعب مثل هذه الاختلافات الطبيعية والمشروعة، ولعل السبب وراء حالة السكون إذا خرج المجلس برأي موحد، يتمثل في عدم وجود أي عذر أو حجة لضرب بعضنا بعضا، حيث يصبح الجميع في "الهوا سوا"!

وبالتأكيد لا يعني خروج المجلس والحكومة مجمعين على الكثير من القضايا، بأنه حالة شاذة أو مرفوضة، ولكن على العكس تماماً فإن إجماع السلطتين، ولو في فترات معنية، من شأنه أن يمتص حالة التعبئة الشديدة بين التيارات وحتى القطاعات الشعبية المتعددة.

من جانب آخر، فإن الإجماع السياسي على قضايا مثل التنمية وإنشاء مؤسسات اقتصادية وتجارية وتطوير الخدمات العامة يدل على أمرين؛ الأول، أن الجميع مهما تباينت مواقفهم وآراؤهم يقر بوجود حالة عامة من التخلف والفساد، وبضرورة تطبيق خطوات الإصلاح والتطوير. والثاني، أنه كلما طرحت القضايا التي يستفيد منها الشعب بمشاربه وانتماءاته المختلفة وتحت مظلمة القانون خفَّت الاختلافات الطبقية والطائفية والقبلية، وتعززت صورة الوحدة الوطنية.

ولهذا نأمل أن يستمر المجلس والحكومة معاً على الأقل في تقديم المشاريع المتفق عليها وذات الصبغة التنموية ومحل القبول العام، ليس فقط لمواصلة عجلة الإنجاز، بل الأهم من ذلك تفويت الفرصة على المفلسين سياسياً الذين لا يمكنهم البقاء إلا على اعتلاء موجة الفتن البغيضة بكل أشكالها وأنواعها!