تكتب كينيزي مراد، الرواية، بسرد مضاعف وفخم، أو بالأحرى تكتب روايتها هي، وتكتب أيضاً السير المتقاطعة مع حياتها، غير أن روايتها فيها من الأحداث والحكايات الغريبة ما يجعل من كتابتها الروائية صيغة ملحمية إذا جاز هذا القول، من أجل استحضار ماضيها الاسطوري وماضي أسلافها. ذلك الماضي الذي انتهى بانتهاء الإمبراطورية العثمانية ومجيء العسكري الذي غير تركيبة تركيا نهائياً: كمال أتاتورك. هنا تبدأ مسيرة المنفى الطويلة لعائلة السلطان مراد باشا الكبير.

Ad

كان هو آخر السلاطين الأتراك، يلقي النظرة الأخيرة، الحزينة على البسفور، وقد خسر ملكه نهائياً، ثم تشتتت العائلة على امتداد زوايا الأرض الأربعة، لنقل إن كنيزي مراد تكتب مرثية عن هذه الإمبراطورية وترسم لوحة الحنين وهو حنين فاجع، وغياب مؤلم وصور ممزقة، لجدارية ضخمة لونها الأساسي: نثار الرماد.

نعم تكتب كينيزي مراد، سيرة ملحمية أطرافها بعيدة الغور، فليس في كتابتها نقطة ارتكاز واحدة فحسب بل مجموعة من الحزم المتشابكة والمتداخلة على الدوام. كتابة بقدر ما هي مشدودة الى التاريخ، الأحداث، الوقائع، والتفاصيل بقدر ما هي مشدودة أيضاً الى جغرافيا تمتد على مساحة الأرض، ابتداء من الأوطان المغدورة وانتهاء بالمنافي الثلجية القاتلة.

لكن من أين تبدأ هذه الحكاية؟

في كتابها الضخم (مذكرات أميرة عثمانية في المنفى) حوالي 800 صفحة، والذي ترجمه حافظ الجمالي عن الفرنسية بسلاسة يُحسد عليها، أقول في كتابها هذا تبدأ مسيرة طويلة لتلك الأميرة المخذولة (سلمى) من اسطنبول، القدس، الهند والنهاية الفاجعة في باريس، في فترة الحرب العالمية الثانية، لكن هذه الأميرة التركية، ذات التوجه الأوروبي في حياتها والتي ارتحلت مع أمها وخادمها، أو بالأحرى خصيها، (زينل) ذي البشرة الشقراء والعينين الخضراوين، هذه الأميرة المتمردة، بكل معنى الكلمة والتي تذكرنا بالأميرة العُمانية (سالمة). هي التي ستسرد وقائع حياتها التي لا يمكن اختزالها بسهولة. يكفي ان نُشير بشكل عام الى حياتها في بيروت، أواخر الثلاثينيات وبداية الأربعينيات، وانخراطها في جو الانفتاح والاختلاط مع العائلات البيروتية العريقة. هناك ستتعرف عن كثب على مؤسس وزعيم الحزب القومي السوري، أنطون سعادة ثم تصبح بعد ذلك محط انظار المجتمع البيروتي المخملي. لكن الأقدار هي وحدها من سيتحكم في حياتها، ليخطبها أمير وسياسيٌ (راجا) من أمراء مقاطعات الهند وخريج جامعة أوكسفورد إبان الأمبراطورية البريطانية. بعد رحلة قطار مضنية ومستحيلة تقريباً، تصل الى قصرها في تلك المقاطعة، التي يسكنها أكثرية من المسلمين الشيعة، تلك المقاطعة المعروفة بطقوس عاشوراء ومقتل الحسين وحزن كربلاء، هناك بين خدم وحشم القصور ستقضي سلمى، حياتها الجديدة كنوع من التعويض الذي خسرته في قصور السلاطين الأتراك. هناك ستتعلم (سلمى) لغة جديدة إضافة الى لغتها التركية والعربية والانكليزية والفرنسية هناك ايضاً ستتعلم لبس الساري والتقاليد الهندية بما في ذلك الرقص الهندي، هناك ستحاول أيضاً تطبيق أفكارها المتحررة عن المرأة وتركب الخيل وتمارس الرياضة بل وتنخرط في أعمال اجتماعية وسياسية لمساعدة النساء، كما ستحث زوجها الجديد، على التمرد، على الإنكليز بل وتلتقي بالمهاتما غاندي ثم نهرو وتتعرف على الساسة الكبار المؤثرين في مجرى الحياة السياسية حينذاك. هناك ستشهد هذه الأميرة الغريبة، وقائع الانتفاضات والتعصب الديني، وقائع انسلاخ أو تقسيم القارة والمفاوضات السياسية مع الانكليز لاستقلال الهند، وهي فوق هذا كله تنظر بعين خفية الى المكائد العائلية التي تحاك في قصرها حتى كادت تختنق. في تلك اللحظات الحاسمة، أطل القدر أيضا برأسه، فتترك سلمى هذا المجد وتبحث عن حرية روحها، فتغادر إلى باريس وهي حامل، دون أن يعرف أميرها الحزين الذي لم يستطع أن يفعل شيئاً وهو يرى حبيبته تنسل من بين أصابعه كالماء. في باريس سيلتحق بها خصيها (زينل) الذي كان يحملها وهي طفلة في اسطنبول والذي ظل وفياً لها حتى أنفاسها الأخيرة.