The Ghost Writer... مرآة رومان بولانسكي

نشر في 15-02-2010 | 00:01
آخر تحديث 15-02-2010 | 00:01
احتفل فيلم التشويق الأخير لرومان بولانسكي، The Ghost Writer، بعرضه العالمي الأول في برلين أخيراً، إنما في غياب مخرجه. فقد فُرضت على بولانسكي الإقامة الجبرية في سويسرا، حيث ألقي القبض عليه في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي بسبب قضية تعود إلى عام 1977 اتُّهم فيها بإقامة علاقة جنسية غير مشروعة مع فتاة في الثالثة عشرة. ومن الممكن اعتبار الفيلم تعليقاً على حالته الراهنة.
في عرض The Ghost Writer الأول لا نرى أي سجاد أحمر أو معجبين أو مصورين. فقد عُرض هذا الفيلم بكل هدوء يوم الأحد الواقع فيه 17 يناير (كانون الثاني) في شاليه بولانسكي في سويسرا، منزل خشبي في ضواحي غشتاد.

على واجهة الشاليه، كُتبت عبارة {درب التبانة} بأحرف ألمانية قديمة الطراز. وكي يضمن بولانسكي أن الصوت والصورة سيكونان ممتازين، جهّز الشاليه بنظام سينمائي منزلي يشمل شاشة وجهازاً لبث الأفلام. قبيل أيام، أرسل له منتجه من باريس قرص DVD يحمل نسخة الفيلم النهائية.

لكن بولانسكي لم يشأ أن يشاهد فيلمه بمفرده. لذلك دعا صديقه، الكاتب البريطاني روبرت هاريس، إلى غشتاد. ألّف الأخير عدداً من كتب حققت أفضل المبيعات، مثل Fatherland وPompeii. وخلال السنوات الثلاث الماضية، كان شريك بولانسكي الأبرز. حتى أنه كتب الرواية التي يستند إليها The Ghost Writer، وعمل مع بولانسكي على إعداد السيناريو.

سافر هاريس من إنكلترا لحضور عرض الفيلم الأول. يخبر: "شعرنا أننا، على رغم الظروف الصعبة كافة، حققنا نتيجة جيدة".

كذلك سافر هاريس لحضور عرض آخر للفيلم، العرض الأول الرسمي في مهرجان برلين السينمائي الدولي. رُشح The Ghost Writer لجائزة {الدب الذهبي}، إلا أنه لن يكون فيلم المهرجان الافتتاحي. يوضح ديتر كوسليك، مدير المهرجان: {لم نرد أن يظن الناس أننا نتخذ موقفاً في قضية لا نود أن يكون لنا فيها أي دخل}.

في 26 سبتمبر (أيلول)، اعتُقل بولانسكي في مطار زيورخ. فقد لحقت به خطايا الماضي حين نفّذت الشرطة السويسرية مذكرة توقيف أميركية صدرت بحقه قبل 30 سنة.

في عام 1977، أقام بولانسكي، الذي كان آنذاك في الثالثة والأربعين، علاقة جنسية غير مشروعة مع فتاة في الثالثة عشرة تُدعى سامانتا غايلي. واحتُجز طوال 42 يومياً في سجن تابع للولاية في شينو في كاليفورنيا بغية إخضاعه لتقييم نفسي.

في النهاية، وافق جميع المعنيين في القضية، حتى المحامي الذي يمثل الضحية، على ضرورة حصول بولانسكي على حكم معلّق. إلا أن القاضي بدّل رأيه في اللحظة الأخيرة. وفي 31 يناير عام 1978، قبل يوم من صدور الحكم, سافر بولانسكي بالطائرة من لوس أنجليس إلى أوروبا. ولم يعد مطلقاً إلى الولايات المتحدة، ولا حتى حين فاز بجائزة أوسكار عن فيلمه The Pianist، الذي يتناول المحرقة النازية. ولم يتبدل وضع القضية على رغم أن الضحية سامحته علانية وطالبت بإسقاط الدعوى.

بقيت هذه الفضيحة الجنسية لفترة طويلة مجرد حقبة غريبة في حياة بولانسكي المذهلة، أحد أهم مبدعي السينما، مناضل صلب وُلد في باريس عام 1933 وتربى في كراكوف في بولندا وأخرج لاحقاً تحفاً فنية، مثل Rosemary’s Baby وChinatown. قتل النازيون والدة بولانسكي في معسكر أوشفيتز. وفي عام 1969، قتل أتباع بدعة تشارلز مانسن الشيطانية زوجته الثانية شارون تايت وطفلهما الذي ما كان قد وُلد بعد.

صمت وعزلة

منذ توقيف بولانسكي في زيورخ، تحوّلت قضيته إلى مثار جدل سياسي وصراع ثقافي شمل نصف العالم. فقد أمعن السياسيون النظر في هذه المسألة، شأنهم في ذلك شأن زملاء بولانسكي البارزين في عالم الأفلام. كذلك وقّع داعموه عرائض تندد بما يحدث معه (من دون أن يطلعوا على تفاصيل القضية غالباً)، فيما نعته خصومه بأنه يسيء إلى الأطفال (كان دافعهم الغضب الأعمى غالباً). وطالبت صحيفة Wall Street Journal أن يُحاكم بولانسكي في الولايات المتحدة، مدعية أنه عاش "في غرفة معزولة مقفلة بإحكام يردد فيها التهنئات رجال لا يتجرأون على معارضته ويكرسون حياتهم لتلبية رغباته}.

أمضى بولانسكي شهرين في سجن سويسري. وقد انضم إلى محاميه عدد من الخبراء القانونيين في سويسرا وفرنسا والولايات المتحدة. فبذلوا قصارى جهدهم كي يحولوا دون ترحيله. وفي مطلع شهر ديسمبر (كانون الأول)، أُطلق سراحه بكفالة قدرها 4.5 ملايين فرانك سويسري (4.2 ملايين دولار أميركي/3.1 مليون يورو). ورافقته الشرطة إلى الشاليه في غشتاد، حيث يعيش منذ خروجه من السجن. كان بانتظاره عند وصوله أكثر من مئة مصور وصحافي، استأجر بعضهم طوافات لالتقاط صور له من أعلى.

يطلق بولانسكي على هذا الحشد المحيط بمنزله اسم "بنات آوى". ويرفض التحدث إلى المراسلين. أما إذا كنت محظوظاً، فستتسلم منه رسالة إلكترونية يذكر فيها: {آسف، لكنني لا أود إجراء أي مقابلات}.

وبما أن بولانسكي يرفض الكلام، تولى هذه المهمة عنه صديقه روبرت هاريس. يعيش هذا الكاتب (52 عاماً) في منزل قديم في مقاطعة بيركشاير الإنكليزية الواقعة غرب لندن على بعد مئة كيلومتر. يبدو منزله أشبه بقصر صغير خرج لتوه من أحد مشاهد أفلام جاين أوستن. في الممر أمام المنزل كانت أربع سيارات متوقفة، إحداها من نوع آستون مارتن. وعلى رغم أن هاريس كان مراسلاً إخبارياً سابقاً، يبدو اليوم أشبه بأحد الأرستقراطيين من الأرياف. في العام الماضي، كتب هاريس مقالة ساخرة في صحيفة {نيويورك تايمز} دافع فيها عن صديقه. فتساءل: "لمَ يُعتقل رومان بولانسكي اليوم؟". وأضاف: {إذا كان بولانسكي خطراً إلى هذا الحد ويسيء إلى المجتمع المتمدن ومن الضروري سجنه، فلمَ لم يقدم أحد على ذلك سابقاً؟}. ثم أوضح هاريس أن ثمة أسباباً جوهرية حالت دون ذلك.

يقول هاريس اليوم: {يجب الدفاع عنه، لكن إذا قدّم أحد حجة لصالح بولانسكي، يطرح خمسة آخرون حججاً مناهضة له}. يرفض هاريس الإفصاح عما ناقشه مع صديقه خلال الأسابيع الماضية، مكتفياً بالقول: {أعتقد أن الرد الأفضل على أعدائه يتمثل في مواصلته العمل الذي يبرع فيه: إخراج الأفلام الجيدة}.

أوجه شبه مذهلة

رغب بولانسكي أولاً في إنتاج فيلم يستند إلى رواية هاريس التاريخية، Pompeii. لكن خلال عملهما على المشروع، اضطر هاريس للسفر إلى باريس لأن مذكرة التوقيف الصادرة بحق بولانسكي منعته من دخول بريطانيا. وهناك وضعا معاً السيناريو، غير أن تصوير الفيلم تطلب 150 مليون دولار (109 ملايين يورو). لذلك بعث هاريس إلى بولانسكي بنسخة عن روايته الجديدة The Ghost مع إهداء مضحك: "ربما علينا أن نصور هذه راهناً. فهي لا تحتوي على براكين أو ملابس قديمة".

تتحدث قصة The Ghost Writer عن رئيس وزراء بريطاني سابق يتمتع بدرجة عالية من الذكاء يُدعى آدم لانغ، ويشبه إلى حد كبير توني بلير. يعلن رئيس الوزراء السابق الخيالي هذا عن كتابته مذكراته. ويكون قد تلقى مقابلها 10 ملايين يورو كدفعة مسبقة. لذلك يروح الناشر يلحّ عليه لإنهائها في أقرب وقت ممكن. وكما تجري العادة في مثل هذه الحالات، يُستخدم كاتب لا يُذكر اسمه لصياغة المذكرات. لكن في حالة لانغ، يكون البطل ثاني كاتب يعمل على مذكراته.

ويصدف أن الناشر يملك منزلاً يمضي فيه العطل على جزيرة نائية قبالة الساحل الأميركي الشرقي. فيضعه في تصرف رئيس الوزراء السابق خلال فترة عمله على كتابه.

لكن بالكاد يتسنى للكاتب الجلوس والتحدث إلى الرجل الذي يُفترض به كتابة مذكراته، قبل أن تبدأ المشاكل. فقد تعرض هذا السياسي للانتقادات طوال سنوات لأنه انضم إلى الولايات المتحدة في حربها ضد العراق. وتطلب منه المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي المثول أمامها لأنه سمح بخطف مواطنين بريطانيين خلال الحرب على الإرهاب. وهذه جريمة حرب، حسبما يُفترض. لا شك في أن هذا موضوع سياسي يثير راهناً جدلاً واسعاً بالنسبة إلى فيلم تشويق مليء بانتقادات لاذعة موجهة ضد الولايات المتحدة. عندما قرأ بولانسكي الكتاب، قال، حسبما يتذكر هارس: {الكتاب هو السيناريو}.

في الكتاب، يجد رئيس الوزراء السابق نفسه عالقاً في الولايات المتحدة بسبب التحقيق. ويقول له محاميه: "بصفتي محاميك، أنصحك بعدم السفر إلى أي بلد يعترف بصلاحيات المحكمة الجنائية الدولية. فيكفي أن يتعاطف إثنان من هؤلاء القضاة الثلاثة مع المدافعين عن حقوق الإنسان ليصدرا مذكرة توقيف وتعتقلك الشرطة". لذلك، يقرر رئيس الوزراء السابق أن البقاء في الولايات المتحدة أفضل من أن "يُقتاد من مطار هيثرو مكبل اليدين".

واقع وخيال

تعكس مشاكل السياسي المختلقة المصائب التي يواجهها بولانسكي في حياته. فكلاهما رجلان مشهوران يعيقهما ماضيهما ويشلّ حركتهما. وكلاهما شخصان نافذان يخوضان حرباً ضد نظام يعتبرانه ظالماً. يقول رئيس الوزراء السابق في كتاب هاريس: "إذا أرادت الحكومة البريطانية تسليمي إلى هذه المحكمة الصورية، فلتذهب إلى الجحيم. سأعيش حيث لا يسعى الناس إلى التخلص مني}.

بالنظر إلى أوجه الشبه هذه، يمكن اعتبار الفيلم تعليقاً على وضع بولانسكي الراهن أو دعماً للقضية التي طرحها في سيرته الذاتية عام 1984. فقد كتب: "حسبما أذكر، كان الحد الفاصل بين الخيال والحقيقة مبهماً تماماً".

علاوة على ذلك، يوضح هاريس أن أوجه الشبه بين حقيقة بولانسكي وخيال روايته {كانت على الأرجح أحد الأمور التي شدته إليها}. لكنه يستدرك مضيفاً: {ربما بطريقة لا واعية}. في مطلق الأحوال، يصعب التغاضي عن التهكم والسخرية في هذه الرواية، خصوصاً أن أحداث الفيلم تدور في بلدين يعجز بولانسكي عن زيارتهما: إنكلترا والولايات المتحدة.

صُوّر الفيلم في ألمانيا. وحلت جزيرتا سيلت ويوزدوم مكان جزيرة مارثاز فنيارد، فيما حُوّل شارع Charlottenstrasse في برلين إلى شارع إنكليزي باستخدام لوحات باللغة الإنكليزية وتسيير حافلات ذات طابقين. وعلى رغم أن وضع بولانسكي يبدو حرجاً اليوم، لكن الحظ حالفه نوعاً ما. يوضح هاريس: {لو أنه أُوقف في شهر أبريل (نيسان) مثلاً، حين كان يتنقل بحرية في برلين، لحلت بنا كارثة حقيقية، لعنى ذلك إفلاسنا}.

في شهر أبريل عام 2009، كان بولانسكي منهمكاً في تصوير فيلمه الذي بلغت كلفته 40 مليون دولار. وفي حال كسر ممثل رئيس رجله أو دهست حافلة المخرج، تتكفل شركة التأمين بتغطية الخسائر. لكن ما من تأمين ضد مذكرات توقيف تعود إلى عقود مضت.

عيش في المجهول

عندما كان بولانسكي في السجن ينتظر ترحيله في وينترثور في سويسرا، لم يُسمح له بمقابلة أحد غير محاميه وزوجته. وعلى رغم أن مرحلة تصوير الفيلم كانت قد انتهت، كانت عملية التحرير ووضع اللمسات الأخيرة في أوجها. وكي يبقى بولانسكي على اطلاع على التقدم الذي يحرزه الفيلم، اعتاد محاميه أن يحضر له أقراص DVD عن عملية التحرير. ويؤكد منتجو الفيلم، {روبرت بنموسا}، أن {نسخة الفيلم النهائية هي النسخة التي أرادها بولانسكي}. وعندما زار هاريس بولانسكي ذات مرة في السجن، وجده يتحقق من ترجمة الفيلم الألمانية.

على بولانسكي راهناً وضع سوار إلكتروني في كاحله. وإذا حاول مغادرة منزله في غشتاد والسفر إلى فرنسا مثلاً، يُطلق السوار جهاز الإنذار. لكن إن بقي في الدخل، يمكنه التنقل بحرية في الشاليه وفعل ما يحلو له، إلى أن تقرر المحكمة في مسألة ترحيله. يستطيع استقبال الزاور، إجراء الاتصالات الهاتفية، تناول المشروبات، التفكير في المستقبل، وعزف الموسيقى. في الواقع، يشارك بولانسكي زوجته إمانويل سينييه في غناء إحدى أغاني ألبومها الجديد. تسأله سينييه: {ماذا تفعل في فراشي؟}، فيجيبها بولانسكي: {أنا الحب بحد ذاته}.

نحو نهاية العام الماضي، كتب بولانسكي رسالة إلى المفكر الفرنسي برنار هنري ليفي شكر فيها كل مَن دعمه {من مختلف أنحاء العالم}. وبموافقة بولانسكي، نشر ليفي الرسالة على موقعه الإلكتروني. ذكر فيها بولانسكي أن عبارات الدعم {قوته} حين كان محتجزاً في زنزانة وأن هذه الرسائل شكّلت {مصدر عزاء وأمل} له في {أحلك لحظات حياته}.

قد يبقى مصير بولانسكي مجهولاً لبعض الوقت. ففي 22 يناير، رفض قاض في كاليفورنيا التماساً قدمه محامو بولانسكي طالبوا فيه بإجراء المحاكمة في لوس أنجليس وبغياب المخرج. قال القاضي بيتر اسبينوزا: {علي أن أصر على حضوره، دفاعاً عن نزاهة الجهاز القضائي}. واعتبر القاضي اسبينوزا الحكم الأول {وسيلة ترغيب... لا عقاباً}. لكن محامي بولانسكي ينوون استئناف قرار القاضي.

في هذه الأثناء، قالت وزيرة العدل السويسرية، إيفلين فيدمر شلومف، إن إجراءات الترحيل قد تستغرق {سنة}.

يبدو أن جميع الأطراف يودون المماطلة في هذه القضية. فالأميركيون ينتظرون قرار السويسريين، الذين ينتظرون بدورهم قرار الولايات المتحدة. أما بولانسكي، فقد بدأ العمل على فيلمه التالي، حسبما تؤكد زوجته. وتذكر الشائعات أنه مقتبس عن مسرحية ياسمينة رضا The God of Carnage (إله المذبحة)، التي تدور أحداثها كافة داخل غرفة واحدة.

back to top