شعر المحاور الكبرى

نشر في 05-08-2010
آخر تحديث 05-08-2010 | 00:00
 فوزي كريم ملحمة «جلجامش» السومرية، مقارنةً بالملاحم العالمية التي تلتها (ملحمتا اليوناني هوميروس على سبيل المثال)، تبدو لي أكثر عمقاً في معالجة الشرط الإنساني: حرية الكائن في مواجهة الأقدار. وقدرة الكائن على بلوغ الحكمة، عبر المعرفة، والخبرة. عناصر أعطت النص الشعري خلوداً لا يعتمد التسلية الحكائية، بل التساؤل، والتأمل. وجعلته، على المستوى الشخصي، نديماً لا تُمل صحبتُه.

سبق أن عرضت لعدد كثير من إصدارات غربية، في حقل الشعر، اعتمدت ترجمة الملحمة، نثراً، شعراً، أو استيحاءً شعرياً يعتمد تأويلاً شخصياً. كما عرضتُ لعدد من أعمال الأوبرا، التي وضعت الملحمة في حناجر المغنين، وآلات الموسيقيين. والآن، ولأول مرة، أعرض للملحمة وقد تشكّلت في نص مسرحي، شعري. وعلى يد شاعر رائع، وبالغ الأهمية.

المسرحية صدرت عن دار Carcanet بعنوان The Play of Gilgamesh للشاعر الأسكتلندي Edwin Morgan (مواليد 1927). ومورغان هذا شيخ الشعراء الأسكتلنديين اليوم. شيخ، لا بسبب خبرة السنوات التي بلغت 83 وحدها، بل بسبب موهبة شعرية عالية، وروح تجريبية، وثقافة بالغة التنوع. فهو كلاسيكي، إذا نظرنا إلى شعر هذه المسرحية، ولكنه تجريبي، طليعي، إذا نظرنا إلى نتاجه الشعري منذ الستينيات: شعر كونكريتي، شعر البيتز، شعر القصص العلمي، شعر عن الفيلم، شعر للأوبرا، شعر السونيت... وهو ألْسُني، أغنى اللغة الإنكليزية بترجمات شعرية من لغات عديدة: الروسية، الهنغارية، الفرنسية، الإيطالية، اللاتينية، الإسبانية، البرتغالية، الألمانية، ولغات أخرى. وقائمة مؤلفاته تضيق بها أسطر هذا العمود!

مسرحيته الجديدة تنم عن حب للنص الملحمي السومري، واستيعاب، ومحاولة فهم شخصية جداً. جعل النص الشعري على نظام البيتين اللذين يعتمدان قافية واحدة. أسوة بالترجمات المعتادة للنصوص الكلاسيكية. ولم يعبث بالعمود الفقري لنص الملحمة. ولكنه، وفقاً لميله الشخصي في التأويل، أضاف لوناً هنا، وأبرز لوناً هناك، محتفياً بالعنصر الدرامي الملتهب عبر الفصول الخمسة.

الشخصيات هي هي، ولكن أنكيدو يشفّ لنا بلون أخضر، لأن مورغان يراه رمز الطبيعة والريف والمرعى، في مقابل جلجامش، ابن المدينة أوروك. وشامات، عاهرة المعبد التي أغوت أنكيدو البري بالجنس والخمرة من أجل أن يكون إنساناً مدينياً، يجعل حضورها الدرامي في موقع لم يجرؤ عليه النص الأصل. فهي تشهد موت أنكيدو، وتواجه لعناته، وتعود به إلى اللين والاعتذار. وجلجامش، الجليل والطاغية في آن، يجد في أنكيدو المتحدي مصدراً للحب، والمغامرة، ثم الخبرة والحكمة. قوتان متعارضتان بصورة واضحة. ولكنه تعارض يصبح لدى جلجامش وحده عنصر صراع داخلي. والحب يأخذ هنا مدى غربياً معاصراً، بالرغم من أن الملحمة الأصل تشجّع عليه ولكن بمقدار. فالعلاقة بين جلجامش وأنكيدو تجيش بحب، تمنحه البراءةُ الطبيعيةُ الأولى خلطةً من المعاني، لا يصحّ عليه واحد منها بمفرده. ولكن مورغان الغربي شاء، تحت تأثير شيوع ظاهرة الحب المِثلي الغربي كما تشيع الموضة، والذي لا يخلو من عنصر استثاري إعلامي، أن يُقحم مشهداً حسيّاً موارباً، حين يجعل جلجامش، في آخر حفل انتصارهما على وحش غابة الأرز، يأخذ بيد أنكيدو الفتي إلى غرفة نومه، التي تشف عبر ستار.

هناك تأثير بريختي في إدخال عنصر الأغنية، وتأثير أسكتلندي محلي عبر إقحام شخصية المهرّج بلهجته العامية. إلى جانب اللعب الراقص بالكلمات ذات المعاني الصوتية، والتي أعطت الفعل الدرامي مسحةً أرضية.

ملحمة جلجامش بين يدي الشاعر مورغان، أعطت ما لم تُعطه في معظم الترجمات التي اطّلعتُ عليها. لا لأنها دراما شعرية من يد ماهرة فقط، بل لأن الدراما حاولت انتزاع الملحمة من تربتها الحكائية، وتقديمها إلى مشاهد عصري.

ملحمة ذات جوهر شعري حقيقي، لأن محاورها العديدة كبرى، وإشكالية، تتصل بالمصير الإنساني: مسعى لاكتشاف الذات وآخر للعبور من وعورة الخبرة - المعرفة إلى صفاء الحكمة. تساؤل ضخم بشأن إرادة الكائن وحريته. وآخر بشأن مصيره في الزوال أو الخلود. تساؤلات كبرى لا يُحيط بها إلا الشعر العظيم. لا لعب لفظي، ولا تسلية خيالية. 

back to top