الطريق إلى الازدهار والأسواق الناجحة

نشر في 10-12-2009
آخر تحديث 10-12-2009 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت إن شبه الانهيار المالي العالمي، وما تلاه من ركود اقتصادي عميق، جعل الدول الأنجلوساكسونية تتأمل ملياً فيما ينبغي عليها أن تفعل لوضع اقتصادها على المسار السليم نحو التعافي وفي الوقت نفسه تجنب تكرر حدوث مثل هذه الأزمة في المستقبل. كان أعضاء مركز جامعة كولومبيا لدراسة الرأسمالية والمجتمع قد أرسلوا بعض توصياتهم إلى قمة مجموعة العشرين في شهر أبريل الماضي. فلتوفير المزيد من فرص العمل في الاقتصاد، اقترحت أن تقوم الحكومات بتأسيس فئة من البنوك تحرص على استعادة فن تمويل المشاريع الاستثمارية المفقود في قطاع الأعمال- وهو ذلك النمط من التمويل الذي أتقنته البنوك «التجارية» القديمة قبل قرن من الزمان. كما جددت تأييدي لإعانة الشركات على الاستمرار في تشغيل العمالة ذات الأجور المتدنية (ولقد تبنت سنغافورة هذه الفكرة بنتائج تحسد عليها).

ولحماية البنوك التجارية من المجازفة بالإفلاس (وإفلاس البلاد بالكامل) مرة أخرى، فقد اقترح ريتشارد روب فرض ضريبة صغيرة على ديون البنوك القصيرة الأجل في محاولة لردع البنوك عن الإفراط في الاقتراض. واقترح عمار بهايد عودة البنوك التجارية إلى «التضييق المصرفي». وإذا فعلت البنوك ذلك فما كانت لتتمكن من الاقتراض على الإطلاق.

ولكن على الرغم من كل التدابير السياسية والأحاديث منذ ذلك الحين، فإن بلدان مجموعة العشرين لم تتبنّ أياً من هذه الاقتراحات. فكان جُل تركيزها على تدابير مواجهة التقلبات الدورية التي تهدف إلى تخفيف الانحدار بدلاً من إعادة الهيكلة. وهذا التخفيف في حد ذاته أمر يستحق الترحيب بطبيعة الحال، ولكن التدابير التي اتخذت قد تؤدي إلى تأخير التعافي.

إن قدراً كبيراً من «الحافز» المالي المقدم للمستهلكين يحمل الشركات على التشبث بالموظفين لفترة أطول قليلاً بدلاً من تسريحهم لمصلحة صناعات التصدير والاستيراد المتنافسة والتي تشهد توسعاً ملحوظاً. والقدر الأعظم من الحافز المقدم لمالكي المساكن يعمل على دعم أسعار الإسكان إلى مستويات غير قابلة للدوام. وهذا يعمل على إبطاء عملية امتصاص الاقتصاد للموارد الفائضة في صناعة البناء والتشييد. ومن المؤكد أن جولة أخرى من التحفيز العالمي بعد توقف الانحدار أو اقترابه من التوقف من شأنها أن تدفع أسعار الفائدة العالمية إلى الارتفاع وأن تدفع أنشطة الاستثمار إلى الانخفاض.

أما المبادرات الحكومية الرامية إلى إعادة تشييد «البنية الأساسية»- إحلال استثمارات الدولة في الرعاية الصحية، والتحكم في المناخ، والحفاظ على الطاقة في محل استثمارات القطاع الخاص المتراجع- فإنها لا تعاني هذا الجانب السلبي. ولكن هناك تساؤلات بشأن جدوى هذه المبادرات كوسيلة لخلق فرص العمل. إن الاستثمارات الخاصة مدعومة بالإبداع الخاص، الذي يحرص على تجديد الفرص الجيدة. ولكن هل تخضع الفرص الجيدة المتاحة أمام استثمارات الدولة لنفس التجديد؟ وهل من الممكن أن تؤدي الشكوك المثارة بفعل الدخول إلى مثل هذه المنطقة المجهولة إلى تكبيد أنشطة الاستثمار الخاصة خسائر فادحة؟

يتعين على الحكومات أن تنفض عن نفسها وهماً مفاده أن التعافي الكامل أمر لا يتطلب أكثر من مجرد الضغط على بعض الأزرار. فبداية من القوى الاقتصادية التي بلغت درجات مدهشة من الإبداع، والتي ازدهرت في القرن التاسع عشر، كانت الطريقة المجربة الحقيقية لاكتساب مستويات مرتفعة من الازدهار- لتوفير المدد الكافي من الوظائف الواعدة- تتلخص في إنشاء منظومة من المشاريع الخاصة المبدعة في قطاع الأعمال.

وما يتعين على الحكومات أن تقوم به الآن يتلخص في «حفز» الاقتصاد المبدع، وليس تعبيد كيلومترات لا تنتهي من الطرق، وتنفيذ العديد من مشاريع الطاقة وغير ذلك من مشاريع البناء. وأفضل سبيل لتقصير فترة الانحدار يتلخص في إعادة هيكلة الاقتصاد على النحو الذي يسمح له بالتعافي إلى مستوى «طبيعي جديد» أعلى.

في شهر ديسمبر الجاري يجتمع مركز دراسة الرأسمالية والمجتمع في برلين، بعد بضعة أسابيع فقط من إحياء ذكرى سقوط سور برلين. ويهدف هذا الاجتماع إلى البحث عن السبل اللازمة لتبسيط ودعم النظم الاقتصادية المعقدة والمتعثرة حتى يصبح بوسعها امتلاك الديناميكية القادرة على توفير مستويات مرتفعة من الرخاء- فرص العمل الوفيرة والرضا الوظيفي.

ليست كل الأدوات اللازمة لجلب ذلك الرخاء معروفة بطبيعة الحال. غير أن العديد منها معروف بالفعل. فمن الجميل أن تكون لدينا صناعة مصرفية تدار بواسطة مجموعة متنوعة من الممولين المخضرمين القادرين على التعرف على الإبداع وتمويل المشاريع الاستثمارية الإبداعية. ومن الجميل أن يكون لدينا قطاع أعمال حيث لا يقع حملة الأسهم فريسة لمديرين تنفيذيين انتهازيين. ومن المؤسف أن نحظى بمديري تمويل يتخلصون من أسهم شركاتهم بأزهد الأثمان إذا لم تحقق هدف مكاسبها في الربع التالي.

ورغم ذلك فإن هدف الديناميكية العالية يثير مشكلة أخرى. فالأسواق، المأهولة ببشر فانين، تعاني المتاعب في التعرف على مكان الفرص الاستثمارية المربحة (ناهيك عن الفرص الأعظم ربحاً). ومعرفة أي شركة بالنتائج المستقبلية لتعهد تجاري جديد أمر بعيد عن الكمال على أقل تقدير. وكلما كانت تلك المهمة أكثر إبداعاً كلما زاد ابتعادنا عن أي فهم متطور لنتائجها المحتملة.

ومعرفة المستثمر بالنتائج المترتبة على قرار يتخذ بشراء هذا الأصل أو ذاك، سواء كان أصلاً مالياً أو حقيقياً، فهي أيضاً تشكل أمراً بعيداً عن الكمال. فضلاً عن ذلك فإن ما يتصوره آخرون- خصوصاً ما يقوم به المنافسون- قد يخلف تأثيراً ضخماً على النتائج المترتبة على أي قرار، والقدر الأعظم مما يفهمه آخرون ويخططون له يُعَد سراً شخصياً، وبالتالي لا سبيل إلى التوصل إليه. لذا فإن ديناميكية أي اقتصاد تعتمد على توفر العدد الكافي من الأشخاص الذين يتمتعون بالجرأة اللازمة للعمل على الرغم من ضآلة معلوماتهم.

إن هؤلاء الذين يسعون منا، في مؤتمر برلين وغيره، إلى إعادة بناء الاقتصاد على نحو يمنحه قدراً أعظم من الديناميكية لابد أن يفعلوا ذلك وهم يدركون هذه الحقائق الاقتصادية تمام الإدراك. إن قوى السوق السحرية محدودة. ومن حسن الحظ هناك بعض المفاهيم السياسية والأفكار التي يجدر بالحكومات أن تستثمر فيها رأسمالها السياسي إذا كانت راغبة في العودة إلى الإبداع والازدهار.

هناك مبدأ دائم لا يتغير مع الزمن، وهو يتلخص في تجنب زعزعة ثقة المستثمرين بلا داع. وحين ذهب جون ماينارد كينز لزيارة الرئيس روزفلت في أوج أزمة الكساد، نصحه بتخفيض نبرة الإدارة المعادية لرجال الأعمال. ولكن يتعين على الحكومات أيضاً أن تتجنب حقن الشركات بقدر مفرط من الثقة، وهو ما قد يغريها برفع هوامش الربح والإضرار بالمبيعات.

إن تبسيط المؤسسات المالية، خصوصاً تلك التي تحظى بمساندة حكومية ضمنية، لابد أن يلعب دوراً أيضاً في إعادة بناء اقتصاد ديناميكي. وتصنيفات التسعير التي تتظاهر بأنها تأخذ في الاعتبار «المجازفة الشاملة» قد لا تقل خطراً عن التصنيفات التي تتجاهل مثل هذه المجازفة. أما صناديق التحوط، وشركات رأس المال المغامر الاستثمارية التي تغامر بالفعل في مشاريع جديدة، والبنوك التجارية التي خضعت لإعادة الهيكلة، فإنها تتلاءم نسبياً مع اتخاذ القرارات المالية التي تتطلب القدرة على الحكم والتمييز، والقدرة على دمج عنصر المجهول، والقيام بذلك على مدى أفق زمني لا تمليه الأرباح الفصلية.

هناك أيضاً أفكار لمعالجة تقلبات المضاربة. وقد تحض على الاستثمار المسرف وخسارة الإبداع. وقد يترتب على «تصحيحاتها» أيضاً بعض التكاليف- تراجع الأعمال وخسارة المزيد من الإبداع.

إن الإطار النظري- اقتصاد المعرفة المنقوصة- الذي نشأ أخيراً على يد أحد أعضاء المركز، وهو رومان فريدمان، بالتعاون مع مايكل غولدبيرغ، يدل على كيفية نشوء التقلبات المفرطة في أسعار الأصول نتيجة للفهم المنقوص من جانب المشاركين في السوق للمكافآت التي تنتظرهم في المستقبل نتيجة لقراراتهم. وهذا الإطار يعرض علينا أساساً منطقياً لتدخل السياسات في أسواق الأصول، كما يحمل بعض المعاني الضمنية المهمة بشأن الكيفية التي يتعين بها على الجهات التنظيمية أن تقيس وتدير المجازفة المالية الشاملة.

إن التحليل يقر بأن الأسواق تقوم بعملها على نحو أفضل كثيراً (وإن لم يكن كاملاً) فيما يتصل بتحديد الأسعار، مقارنة بالجهات التنظيمية. ولكن نفس التحليل يؤيد حجة ضرورة الاستعانة بمقاييس جديدة، بما في ذلك «نطاقات التوجيه» لأسعار الأصول والاختلافات المستهدفة لهوامش الربح ومتطلبات رأس المال، بهدف المساعدة في تثبيط تقلبات الأسعار المفرطة.

إن استعادة الرأسمالية القادرة على أداء وظيفتها بلا خلل ليست بالمهمة اليسيرة على الإطلاق. ولكن هناك من الأسباب ما يدعونا إلى الأمل في أن يكون تحقيق هذه الغاية في متناول أيدينا.

* إدموند س. فيلبس ، حائز جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، ومدير مركز الرأسمالية والمجتمع في جامعة كولومبيا، وعميد كلية نيوهوادو لإدارة الأعمال، وهو مؤلف العديد من الكتب، ومنها كتاب "مكافأة العمل"، وكتاب "الازدهار الجماعي".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top