حول إحياء الخلافة الإسلامية في لندن مرة أخرى

نشر في 12-10-2009
آخر تحديث 12-10-2009 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري أرسل قارئ فاضل خطاباً يعلق فيه على مقالتي «إحياء الخلافة الإسلامية في لندن» وقد شجعني حواره الراقي على كتابة هذا الرد تعميماً لفائدة القراء، يقول الأخ الفاضل:

1- قبل أن نحكم على الديمقراطية إن هي من الإسلام أم لا، علينا أن نعرفها كما عرفها أهلها لا كما نريد أن نعرفها نحن، ولو عدنا لأساس الكلمة لوجدنا أنها تعني حكم الشعب بالشعب، وبناءً عليه فالديمقراطية ليست من الإسلام لأنها تجعل الحكم للشعب بينما الحكم في الإسلام لله رب العالمين، قال تعالى «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ»... «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ»... «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ».

2- الديمقراطية ليست الشورى، وإن وجد قدر مشترك بينهما فهذا لا يعني أن الشورى هي الديمقراطية فالبقرة تمشي على أربع والكلب يمشي على أربع لكن لا نقول إن الكلب هو البقرة.

3- أما الحريات التي تقوم عليها الديمقراطية فتكفي الإشارة إلى أن الإنسان لم يختر أن يأتي لهذه الحياة ولم يختر متى يذهب، فكيف نقول إن الإنسان حر؟!

4- أما لماذا بقاء الشباب المسلم في الغرب رغم أنهم ضد الحضارة الغربية، فالرسول صلى الله عليه وسلم وجد في مجتمع جاهلي وعمل على تغييره بالصراع الفكري والكفاح السياسي ولم ينسحب، وما هجرته إلى المدينة إلا بعد أن أوجد المجتمع الإسلامي في مكة.

5- أما كيف استطاع الغرب الكافر أن يحقق التطور والتقدم بالديمقراطية رغم سيئاتها وشرورها، فالجواب أن هذا التقدم في الحقيقة عائد للثورة الصناعية.

6- الديمقراطية توجد نهضة كأي مبدأ، لكن السؤال: هل هذه النهضة صحيحة أم لا؟

7- المسلمون في ظل الخلافة حققوا أيضاً التطور والتقدم الذي كان الأساس لانطلاق الغرب.

8- الخلافة التي يدعو إليها حزب التحرير هي الخلافة التي بشر بها الرسول- صلى الله عليه وسلم- «ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة» فهي ليست أموية ولا عباسية ولا عثمانية.

9- وحتى لو كانت الخلافة أموية وعباسية وعثمانية فهي خير من هذه الأنظمة في عالمنا الإسلامي.

10- النصوص الشرعية تنص على أن يكون المسلمون في دولة تجمع شملهم «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» وأن يطبقوا الإسلام وأن يبايعوا خليفة ينوب عنهم في تطبيق الشريعة «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».

هذه أبرز النقاط الخلافية في خطاب القارئ الفاضل.

وقبل مناقشتها عندي ملاحظتان:

الملاحظة الأولى: تتعلق بنزعه عامة تسود لدى المطالبين بعودة الخلافة، وهي نزعة مضمرة لا يفصح عنها خطابهم الظاهري لكنها تشكل ظاهرة عامة هي الإعجاب الخفي بحكم الفرد ممثلاً بنظام «الخلافة» بالصورة التاريخية التي امتدت 1300 عاماً- إذا استثنينا الخلافة الراشدة القائمة على مشاركة الأمة في القرار العام ومراقبة السلطة- «الخلافة التاريخية» ما هي إلا لون من ألوان حكم الرجل الفرد، حيث خليفة المسلمين يجمع كل السلطات الدينية والتنفيذية والتشريعية والقضائية، فلا معقب على قراره ولا قيد على سلطانه ولا حدود زمنية لولايته بل يستمر حاكماً حتى يتوفاه الله أو يزيل سلطانه إمام متغلب بسيفه، واستمر هذا النمط من الحكم الفردي قرونا متطاولة عبر خلافات متوالية: أموية فعباسية فعثمانية، حتى سقطت في العقد الثالث من القرن العشرين.

وعلى امتداد هذه القرون كان دور الأمة غائباً ومهمشاً، فقد عطل الخلفاء حق الأمة في اختيار الحاكم وأقصوها عن المشاركة في أي شأن من الشؤون العامة ورسخوا الروح الجبرية والقهرية والاستلابية.

يقول د.عبدالله النفيسي: «السلطة الأموية كانت من طراز السلطة القيصرية وملكياً صرفاً أهدر وعطل مبدأ الشورى، وتوسع في الأكل من بيت المال حتى خرج من الحدود الشرعية، وكانت تظلم الناس في جباية الأمول بالوسائل غير المشروعة، وكان الخلفاء لا يتحرون العدل ولا الشرعية، ولا تختلف الخلافة العباسية الكسروية عن الأموية القيصيرة كثيراً» على أن ظاهرة الإعجاب بـ«حكم الفرد» لا تقتصر على الساعين إلى إحياء الخلافة، بل هي ظاهرة عامة عند كتاب ومثقفين مختلفي المشارب، هناك الذين مازالوا يحنون إلى حكم عبدالناصر وهناك الذين يمجدون حكم صدام، هذا الإعجاب والحنين إلى «حكم الفرد» هو بعض المواريث المترسبة في النفسية والعقلية الجمعية بتأثير من نظام «الخلافة» الذي ترسخ في الأرض العربية.

إن مجتمعاتنا اليوم بحاجة إلى إجراء عمليات تفكيك لهذا الموروث الذي لا يرى في «حكم الفرد» أي منقصة، كما لا يرى في تغييب دور الأمة ومصادرة حقها في اختيار حكامها ومراقبتهم أي غضاضة، إننا بحاجة إلى ثقافة سياسية تتوافق وروح العصر وتعزز حق الأمة في المشاركة العامة، لأن المواريث القهرية التي تحول أو تنتقص من دور الأمة هي مواريث معوقة لأي تقدم أو نهضة، وهي أخطر ما يهدد مستقبل الأجيال القادمة.

على المنادين بإحياء الخلافة أن يعيشوا منطق العصر الذي أصبح يرفض هذا اللون من «حكم الفرد»، ومن المستحيل عودة «الخلافة» في هذا العصر لأنه لا عودة إلى الوراء كما لا عودة إلى عهود الإذلال والقهر واستلاب دور الشعوب باسم «الخلافة»، لقد كانت الخلافة أمراً مقبولاً بمنطق العصور القديمة، حيث كان هناك الحكم الكسروي والحكم القيصري فكان من الطبيعي أن يتخذ المسلمون نمطاً مشابهاً لهما باسم «الخلافة»، لكن لا مفر للمسلمين من الأخذ بحقوق الإنسان في العصر الحديث، ومنطق العصر يفرض تداول الحكم وتجديد المحكومين للحكام ولأهل الشورى.

الملاحظة الثانية: تتعلق بتضخيم سلبيات الديمقراطية وافتقاد الثقة بالحكم الديمقراطي، ورداً على ذلك أقول: إن دعاة الديمقراطية لم يدعوا في يوم من الأيام أن الديمقراطية نظام خال من العيوب، بل قالوا إن الديمقراطية، وبالرغم من مثالبها، هي أفضل صيغة نظامية للحكم توصلت إليها البشرية عبر تجاربها الطويلة في الحكم، وذلك لأنها تحقق أمرين هما عماد تقدم المجتمعات:

الأول: ضمان الانتقال السلمي للسلطة وتداولها ومنع احتكارها لطائفة أو حزب أو قبيلة، وبذلك يتم ترسيخ الاستقرار السياسي للمجتمع كشرط ضروري للتنمية.

الثاني: الديمقراطية مع مثالبها تمتاز بآلية ذكية لتصحيح الأخطاء، وهذا ما تفتقده النظم الفردية التي إن حققت إنجازات سريعة فإنها تنتهي إلى الفشل بسبب مغامرات غير محسوبة، ومن هنا قيل إن مساوئ الديمقراطية تعالج بمزيد من الديمقراطية.

أما النقاط الخلافية للقارئ الفاضل فنرد عليها فيما يأتي:

أولاً: نحن نعرّف الديمقراطية كما عرّفها أهلها لا كما نهوى ولا نرى في حكم الشعب أي مخالفة لثوابت الإسلام، لأن ديننا أقر حق الأمة بحكم نفسها واختيار حكامها وممثليها ومراقبتهم.

ثانياً: الآيات الكريمة التي تتضمن أن الحكم لله لا تصادر حق الأمة في التشريع لعدة حيثيات: منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو القائل «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وهو يشمل جميع شؤون المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ثم إن لفظة «الحكم» في النصوص الدينية يقصد بها «القضاء» لا الأمر «السياسي» أو «التنظيمي» فقول الله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ...» معناه «ومن لم يقض بما أنزل الله» وهذا لا يسلب حق الأمة في التشريع فيما لم ينزل من الله فيه أمر، بل استخدم القرآن لفظة «الأمر» تعبيراً عن الشأن السياسي كما في قوله تعالى: «وشاورهم في الأمر» وهو يؤكد أن الأمة مصدر السلطات فيما لم يأت به الوحي.

ثالثاً: الاختلاف الأساسي بين الشورى والديمقرطية يكمن في أن سلطة الأمة مقيدة بالثوابت الشرعية في الإسلام بينما سلطة الشعب مطلقة في الديمقراطية، فالشورى والديمقراطية تتفقان في تقرير سلطة الأمة وتختلفان في حدودها، وهذا يكفي للقول إن الإسلام يقبل الديمقراطية.

رابعاً: القول إن الإنسان ليس حراً، يلغي مبدأ الحساب والعقاب، إذ كيف يعاقب الإنسان في ما لا اختيار له؟!

خامساً: قياس وضع شباب حزب التحرير في المجتمع الغربي على وضع الرسول- صلى الله عليه وسلم- في مكة، مع الفارق، فالرسول إذ بدأ دعوته في مكة فذلك لأنه من المنطقي أن يدعو قومه الذين يعرفونه، وقد نشأ بينهم وهو منهم وبلسانهم، لكن أي منطق في دعوة حزب التحرير لإحياء الخلافة في الغرب؟! أليس الأولى بهم أن يدعوا قومهم أولاً؟!

سادساً: الغرب إذ حقق التقدم بالثورة الصناعية إلا أن أساسها هو الديمقراطية

سابعاً: نعم، المسلمون حققوا في ظل الخلافة التطور والتقدم، لكن ذلك قد ناسب عصراً مضى، لكن الفتى ليس من يقول كان أبي.

ثامناً: القول إن الخلافة التي يدعون إليها هي الخلافة التي بشر بها الرسول، قول مرسل لا سند له، فإذا كان المسلمون قد أخفقوا عبر 1300 عام في إعادة الخلافة الراشدة، فهل ينجح حزب التحرير فيما عجز عنه المسلمون؟!

ختاماً: أقول إن الإسلام إذ أمرنا بالشورى إلا أنه لم يتعبدنا بنظام «الخلافة» كما لم يلزمنا بلون معين من ألوان الحكم السياسي لأن الأنظمة متغيرة لكن المبادئ هي الثابتة، وقد أعطانا الإسلام حرية صياغة مبدأ الشورى بما يتوافق ومنطق العصر الذي نعيشه، وبما ينسجم مع مواثيق حقوق الإنسان، ويعزز دور الأمة في تنظيم شؤونها من غير وصاية.

*كاتب قطري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top