عجبت على الدوام من نوعين من البشر: الأول يتعلل دائما بعدم توافر الوقت الكافي لديه لينجز أي شيء، تسأله: لمَ لمْ تنهِ معاملاتك المتأخرة؟ يقول لك: "مو فاضي... ما عندي وقت"! لماذا لا تراجع الطبيب؟ "ما عندي وقت!"، لماذا لا تمارس الرياضة؟ "ما عندي وقت!"، متى قرأت آخر كتاب؟ "صج إنك فاضي"!!، وهكذا الرجل "ما عنده وقت بالمرة"!

Ad

أما الثاني فهو الذي يجد وقتا لكل شيء، مع أنه يقوم بكل شيء! يعمل في وظيفتين، صباحاً ومساءً، ولديه الوقت لينام ويشاهد التلفزيون ويراجع دروس أبنائه، ويقوم بواجباته الأسرية ومجاملاته الاجتماعية، وفوق هذا وذاك، ربما وجدت له بين الفينة والأخرى بعض المشاركات والنشاطات الفنية أو الأدبية أو السياسية، ومع هذا ربما شكا لك من وقت الفراغ لديه، والذي لا يعرف ماذا يفعل به؟! وفيم يصرفه؟!

فما الفارق بين الاثنين؟ هل أحدهما يومه عشر ساعات لا تكفي لشيء، والآخر أربعون ساعة؟ أم أن في الأمر سراً لا نعرفه؟!

حسنا... ربما نجد في حكاية الدكتور "جون أرسكين" الأستاذ السابق للغة الإنكليزية بجامعة كولومبيا، والروائي والشاعر، وعازف البيانو الماهر إجابة لبعض هذه الأسئلة أو كلها، فماذا يقول الدكتور أرسكين؟!

"أحسبني كنت في الرابعة عشرة من عمري حينها، وقد أهملت تلك الحادثة بما عهد عن الشباب الصغار من تهاون وقلة اكتراث، لكن ما قاله لي "كارل وولتر" في ذلك اليوم، عاد إلى ذاكرتي بعد سنوات وصار ذا قيمة لا تقدر.

كان كارل يعلمني العزف على البيانو فسألني في أثناء الدرس عن مقدار تدربي وما أقضي فيه من وقت، فقلت ثلاث أو أربع ساعات في اليوم، فسألني: هل تتدرب فترة طويلة؟ ساعة في كل مرة مثلا؟!

فقلت: إنني أحاول أن أفعل ذلك.

قال: إذن، لا تفعل، فإنك متى كبرت لن تجد فراغا طويلا أمامك، تدرب لدقائق فقط كلما سنحت لك الفرصة، خمس دقائق أو عشر قبل ذهابك للمدرسة، وبعد الغداء، وهكذا، واجعل تدريبك موزعا على مدار اليوم، ليصبح مع الوقت جزءا لا يتجزأ من حياتك!

فلما توليت التدريس في جامعة كولومبيا تاقت نفسي إلى الكتابة، غير أن إلقاء المحاضرات وإعداد الدروس وحضور اجتماعات اللجان استنفدت معظم وقتي، فمضت سنتان لم أخط فيهما حرفا، وكان عذري حينها أن الوقت أضيق من أن يتسع لذلك، ثم تذكرت فجأة ما كان قاله كارل وولتر لي أيام الصبا.

في الأسبوع التالي، قمت بتجربة فريدة، فكنت كلما أتيح لي من الفراغ خمس دقائق، أجلس لأكتب حوالي مئة كلمة، فأدهشني أنني وجدت لدي في آخر الأسبوع كراسة مهيأة للمراجعة، وقد كتبت فيما بعد روايات طويلة نالت الاستحسان بهذه الطريقة في اغتنام الفرص القليلة السانحة!

ومع أن واجباتي الجامعية صارت أثقل، إلا أنني كنت أجد في كل يوم دقائق فارغة يمكن اقتناصها والانتفاع بها، بل لقد عدت إلى التدرب على البيانو أيضا، فقد وجدت أن هناك فترات قصيرة في كل يوم تتيح لي وقتا كافيا للكتابة وللبيانو أيضا.

ومن المهم جدا قبل كل شيء، أن تعرف كيف تحسن الانتفاع بالوقت، فعليك أن تشرع في العمل بسرعة، لأنه إذا لم يكن أمامك سوى خمس دقائق للكتابة، فلا يسعك أن تبدد أربعا منها في قضم القلم بأسنانك، وينبغي لك أن تكون قد اتخذت أهبتك العقلية من قبل وتهيأت للكتابة، وأن تحصر خواطرك فيها متى آن لك أن تكتب، ومن حسن الحظ، أن سرعة تركيز الخاطر أسهل بكثير مما يظن البعض، وأعترف... أنني لم أتعلم قط كيف أضع القلم بسهولة متى انتهت الدقائق الخمس أو العشر المتاحة، لكن الحياة كفيلة بأن تجيء بأسباب التعطيل.

لقد كان لكلام كارل وولتر أثر بالغ في حياتي، وأنا مدين له بأن عرفت أن الفترات القصيرة جدا من الوقت حين أضيف بعضها إلى بعض، هي حسبي من الساعات التي أحتاج إليها إذا عكفت على العمل بلا تلكؤ"... انتهى.

إذن، هذا هو الفارق بين نوعين من البشر، الأول لا يجد وقتا لشيء، والآخر ينهي أعماله والتزاماته، ومع ذلك لديه وقت لإنجاز المزيد، الفارق هو في "قيمة الوقت" عند كل منهما، فالأول يقضي جل وقته في النوم أو الهذرة في التليفون، أو في التناحة والتأمل الفارغ معظم الوقت، فيما يستغل الآخر أقل القليل من الدقائق فيما ينفع، معطيا لكل شيء حقه، لذلك يزيد الوقت عنده ولا ينقص، فيما لا يجد الآخر وقتا ليحك به رأسه المشغول على الدوام... باللاشيء!