اشتكى وزير الدفاع روبرت غيتس الشهر الماضي من أن سياسة روسيا الخارجية تجاه إيران "فصامية"، لكن برأيي، لا تنم هذه السياسة عن فصام بقدر ما هي انعكاس لواقع أن روسيا لا تملك سياسة خارجية واحدة، إنما سياسات خارجية متعددة.
حتّى لو أن الحكومة الروسية الراهنة في اعتقادنا تسلّطية أكثر منها ديمقراطية، لاتزال كياناً ذا أوجه متعددة في ما يخص صناعة السياسة، لعل الإمبراطور كان، خلال النظام القيصري القديم، الحاكم المطلق الأعلى، لكن غالباً ما كانت تتجاذبه خيارات مختلفة ومتناقضة في السياسة تدعمها مراكز قوّة مختلفة، في هذا الإطار، لفت أوجين شويلر، دبلوماسي أميركي في روسيا في القرن التاسع عشر: بما أن كل وزير مستقل ومسؤول أمام الإمبراطور فحسب، فإنه يستحيل صناعة سياسة موحّدة، إذ لم تكن مجالس الوزراء تناقش مسائل السياسة بقدر المسائل التفصيلية التي يعتمد حلّها على وزيرين أو ثلاثة معاً... من الممكن تطبيق إجراء ولو أنه قد يكون مخالفاً لأفكار مكتب الشؤون الخارجية ورغباته.أما في النظام الروسي الراهن، فالرئيس هو المسؤول رسمياً عن البلاد وعلى رأس صنّاع السياسة، لكنه غالباً ما يسعى إلى المواءمة بين المصالح المتنافرة والموازنة بينها بدلاً من تطبيق "إرادته التسلّطية" عبر الجهاز الإداري للحكومة، ومنذ عام 2008، ارتبك الوضع بسبب ظهور مركزي قوّة متعادلين حول الرئيس (ديمتري ميدفيديف) ورئيس الوزراء (فلاديمير بوتين). بحسب ديمتري سايمز وبول ساندرز، فإن بوتين وميدفيديف "(يعملان) بشكل روتيني على تشويش الإجراءات (الدستورية)؛ إذ يستدعي ميدفيديف الوزراء الذين يعملون بأوامر بوتين لإصدار تعليمات عامة حول الاقتصاد، بينما غالباً ما يؤدي بوتين دوراً مرئياً في مسألتي الأمن والسياسة الخارجية". من جهته، علّق المحلل كيريل روغوف في صحيفةNovaya Gazeta باحثاً في الوضع الراهن في روسيا، بأن السبب ليس افتقار روسيا إلى حكومة، إنما "لأننا نملك ثلاث حكومات على الأقل"، كل منها متشكّلة حول جماعات مختلفة وبقواعد سلطة متباينة في المؤسسات، وفي وسطها، على بوتين (وميدفيديف) إيجاد مقاربات في السياسة تتعامل مع حاجات وهواجس هذه الكتل المختلفة، لتجنّب أي نوع من الخصومات المدمّرة التي تفكك بنية الحكم برمّتها. في ما يتعلّق بالسياسة تجاه إيران، يشارك لاعبون مخلتفون، حثّ رجال الإصلاح الكرملين على أخذ مخاوف الولايات المتحدة بشأن إيران في الاعتبار، يُذكَر أنهم أولئك الذين يجادلون بأن روسيا بحاجة إلى الدعم الناشط (والاستثمار) من الغرب لتطوير اقتصاد البلاد ومجتمعه. من أجل تسهيل بناء "تحالف قائم على التحديث" مع الولايات المتحدة، لا سيما في مجال التكنولوجيا العالية، لا بد من دعم مقاربة "إعادة ضبط العلاقات" التي اعتمدها أوباما، وبنتيجة الأمر، ليس من باب المصادفة، برأيي، أن إدارة أوباما تقدّمت بالاتفاق 123 حول التعاون النووي المدني مع روسيا للمصادقة عليه مع انتقال الكرملين إلى تأييد فرض عقوبات أقسى في الأمم المتحدة (وعدم توفيره أيضاً الدعم الدبلوماسي للمبادرة التركية البرازيلية مع إيران). فضلاً عن ذلك، بدأت الشركات الروسية التي لديها مصالح مهمّة في الولايات المتحدة مثل LUKOIL بإنهاء أنشطتها في إيران، بهدف التقيد بالعقوبات الإضافية التي فرضها الكونغرس الأميركي على إيران.مع ذلك، على الرغم من الوعد الروسي بتوثيق التعاون مع الولايات المتحدة والذي يشكّل أحد العوامل وراء تبني موسكو موقفاً أكثر تأييداً للموقف الأميركي، فإن سلسلة قديمة من العلاقات التجارية توجد بين طهران وموسكو، ضرورية جداً لعدد من القطاعات في الاقتصاد الروسي، وتؤمّن طلبات للشركات الروسية، لا سيما في قطاع الدفاع، فقد أعد وزير الطاقة سيرجي شماتكو "خارطة طريق" مع نظرائه الإيرانيين لتحديد مظاهر "تعاون على المدى الطويل في مجال النفط، والغاز، والمواد البتروكيماوية" من شأنها تعميق الشراكة "في مجال النقل، والتبادلات، وتسويق الغاز الطبيعي، فضلاً عن مبيعات منتجات البترول والمواد البتروكيماوية" بما فيها بناء معمل للغاز الطبيعي المسيل في إيران واحتمال إنشاء بنك روسي إيراني مشترك لتمويل هذه المشاريع. علاوةً على ذلك، يبدو أن الاتفاق الذي ينص على توفير نظام S-300 للدفاع الجوي لم يُلغ تماماً، إنما عُلّق فحسب.في المقابل، يفيد أندرانيك ميغرانيان أنه لكي يقبل مختلف المساهمين هؤلاء في العلاقة الروسية الإيرانية بتحول كبير في السياسة الروسية تجاه إيران لمصلحة الموقف الأميركي: "على الولايات المتحدة تقديم ما يفوق جميع منافع العلاقة الروسية الإيرانية الراهنة أهميةً"، إنما ذلك يعني أيضاً أن الجانب الروسي سيتمكن من إصدار لائحة واضحة بالعقوبات وتعميمها على جميع مساهميه، لكن بما أن واشنطن عاجزة عن تقديم أي شيء، وبما أنه يصعب استبعاد تلك الأطراف داخل الكرملين المؤيّدة لاستمرار الروابط الروسية الإيرانية من مسار صناعة السياسة، سنحصل على ما سمّاه الصحافي فلاديمير راديوهين "مقاربة متعرّجة".تلك ليست سياسة فصامية، إنما نحن في المقابل أمام تسوية: إذعان مؤيدي إيران لعقوبات الأمم المتحدة، وقبول القيود التي تفرضها هذه الأخيرة على علاقة روسيا بإيران، بما فيها حظر المزيد من التعاون العسكري- التقني، في مقابل رفض اللائحة الموسّعة من العقوبات التي تتبناها الولايات المتحدة بشكل أحادي الجانب، الأمر الذي يفسح المجال أمام تعاون إضافي في حقل الطاقة. ففي النهاية، "ما من عقوبات ستعيق تعاوننا في مجال الهيدروكربونات، وذلك لا يتناقض مع عقوبات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أو القانون الدولي"، حسبما شدد شماتكو نفسه في الأسبوع الماضي.منح رجال الإصلاح أوباما النصر الدبلوماسي الذي احتاجه لإثبات أن مقاربته بـ"إعادة ضبط العلاقات" آتت ثمارها، بينما لا تزال الفصائل التابعة للدولة تحتفظ ببعض الفرص التجارية مع طهران، لأنها تؤمن عموماً بمقولة "عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة"، بمعنى أنها تفضل دعم العقود الإيرانية الراهنة على الاستثمارات المستقبلية الافتراضية وغير المعلنة بوضوح من الولايات المتحدة.لذلك قد ستتواصل هذه "السياسة المتوازنة" (من وجهة النظر الروسية) إلى أن يتحقق أمر واحد من بين عدّة: قد تفسخ إيران بنفسها عقودها مع روسيا بسبب الخطوات التي اتّخذها الكرملين للتكيّف مع الموقف الأميركي؛ أو يعيق الكونغرس الأميركي مساعي إدارة أوباما الرامية إلى تسهيل توثيق العلاقات مع روسيا؛ أو قد تتخطى إيران العتبة النووية وتجبر موسكو بالتالي على الاختيار علناً بين تأييد مواجهة الموقف الأميركي أو مجاراته.لهذا السبب فإن نتيجة المحادثات التي ستعيد إطلاق الحوار بين إيران والدول الأعضاء الدائمة في مجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا مهمة جداً بالنسبة إلى موسكو.فإن استطاعت تلك المحادثات أن تسفر عن اتّفاق بشأن تبادل للوقود لمفاعل البحث في طهران، وتطلق بالتالي مساراً دبلوماسياً عملياً على المدى الطويل، فعندئذ قد تستمر التسوية التي تم التوصل إليها داخل الكرملين.* نيكولاس غفوسديف | Nikolas Gvosdev من كبار المحررين في مجلّة The National Interest، وبروفيسور في دراسات الأمن القومي في كلية الحرب البحرية الأميركية.
مقالات
سياسات موسكو الخارجية
03-08-2010