بالأمس القريب اعتمدت الأمم المتحدة يوماً عالمياً باسم نلسون مانديلا، وهو أمر مستحق؛ فقد تجاوز الرجل بقامته المديدة منطق السياسة التقليدية.

Ad

في عام 1999 ألقى مانديلا خطاباً معبراً ومؤثراً في الساحة الكبرى في الهواء الطلق بجامعة هارفارد الأميركية، وقد تصادف وجودي في ذلك الخطاب التاريخي عندما كنت حينها أستاذاً زائراً في تلك الجامعة، وتسنى لنا أن نلتقيه لاحقاً كمجموعة.

جامعة هارفارد العريقة لم تكن على علاقة طيبة معه أو بالأحرى العكس هو الصحيح، فقد كانت الجامعة عبر سنين طوال تستثمر مئات الملايين من الدولارات في جنوب إفريقيا العنصرية. وبعد تغير الرياح سعت الجامعة عدة مرات لإقناعه أن يقبل الدكتوراه الفخرية منها، إلا أنه لم يكن متحمساً، وعندما وافق خصصت له الجامعة احتفالاً خاصاً خارج موسمها التقليدي لمنح الشهادات، وقرر مجلس الجامعة أن يعقد تلك المناسبة في الهواء الطلق، وهو إجراء لم يحظَ به قبل مانديلا إلا شخصان فقط، هما جورج واشنطن مؤسس الولايات المتحدة وونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني الأشهر، وقد أشار مانديلا إلى هذه المفارقة معتزاً بأن رجلاً من إفريقيا قد وصل إلى هذه المرتبة. وقد علَّق أحد أساتذة جامعة هارفارد بالقول: "في الواقع إن نلسون مانديلا بقبوله هذه الدكتوراه الفخرية من هارفارد كان هو الذي كرَّم الجامعة العريقة وليس العكس".

رحلة مانديلا لكي يصل إلى هذه المرتبة في العالم لم تأتِ اعتباطاً، ولم تأتِِ لكونه سياسياً فذاً أو محنكاً، ولكنها كانت رحلة مليئة بالصبر والثبات على المبدأ، وتعزيز القيم الإنسانية، وعدم القبول بالظلم، وتحمل خلال ذلك الكثير حتى من أقرب المقربين إليه.

بالطبع لم ولن تتحول جنوب إفريقيا بين يوم وليلة إلى جنة المساواة، فما زالت آثار وتداعيات نظام التفرقة العنصرية مستمرة، وهي بحاجة إلى زمن طويل لترميمها، ولكن الأسلوب والنمط الإنساني في تحويل المجتمع من حالة استلاب واحتراب وتميز عنصري كان أسلوباً فذاً من الصعب تكراره.

نموذج مانديلا هو نموذج فريد في عالم تسيطر عليه الكراهية والأنانية والهيمنة والغرور من كل مكان، وفي كل مكان دون استثناء. وقبل هذا وذاك كان مانديلا فاعلاً في التخفيف من حدة الكراهية حين ذهب إلى بيت سجانه الأبيض، وحين دفع بمفهوم لجان الحقيقة والمصالحة مساهماً في زرع بذرة لا تراها الوجوه الكالحة المكفهرة التي تدعي أن مجرد احتكارها للحقيقة، والدين، والمذهب، والمصلحة الذاتية، والقوة، والعرق، أن مجرد ذلك، يمنحها مبرراً للقضاء على مَن يختلف عنها وإقصائه والتنكيل به.

مانديلا ومضة نور في زمن قرر فيه البشر ألا يتعايشوا سلمياً، أو يحترموا بعضهم، فعسى أن تنير هذه الومضة شيئاً في طريق مظلم.