كانت فرصة جيدة حقاً أن أكون في الكويت على مدى الأسبوعين الفائتين؛ لأحضر جانباً من الاحتفالات السنوية المبهجة بعيد التحرير، ولألتقي نخبة من السياسيين والإعلاميين المميزين، ولأسعد بمطالعة وافية للصحافة الكويتية من قريب، رغم أجواء الطقس غير المواتية.
يبقى المشهد الإعلامي الكويتي خصوصاً مميزاً بشدة؛ فثمة خمس عشرة صحيفة يومية، تتدافع بعد صلاة العشاء في كل مساء على سوق محدودة ورقعة جغرافية ضيقة، وتجتهد عبر حملات ترويجية وأنشطة تسويقية معتادة لتحسن حظوظها في الحصول على مكانة متقدمة لجهة التأثير والنفاذ والفوز بحصة معتبرة من الإعلان.لا تحتمل هذه السوق المحدودة هذا العدد الضخم من الصحف، كما أن الكادر المهني المؤهل الموجود في البلد لا يكفي أبداً للنهوض بأعباء إدارة تلك الماكينات كلها، ومخصصات الإعلان جميعها، حتى في غير أوقات المعاناة من تداعيات الأزمة المالية العالمية، لا تسد حاجة هذه المؤسسات للعوائد الإعلانية حتى تستطيع أن تمضي قدماً في الصدور.يبدو أن الصحف تصدر في هذه السوق لاعتبارات غير هادفة للربح غالباً، ويبدو أيضاً أن معظمها صدر من دون دراسات جدوى أو خطط أعمال، بدليل أن بعض هذه الصحف توقف عن الصدور بعد شهور قليلة، وبعضها الآخر انخرط في مسلسلات التقشف وخفض النفقات.لا شك أن هذا حدث أيضاً في بلدان أخرى في المنطقة، بل إنه حدث بشكل أكثر حدة وتسارعاً في دول العالم الأول، حيث انهارت مؤسسات صحافية عملاقة، وتوقفت صحف عريقة عن الصدور أو خفضت نفقاتها أو عدلت دورية صدورها.لكن ما يجعل الصحف الكويتية في وضع مختلف وأكثر حرجاً، أنها جميعها تصدر مستهدفة جمهوراً واحداً محدداً، في رقعة جغرافية صغيرة ومحدودة، وبشكل فني متشابه، وبإطار قضايا واحد، وبقصص معينة متكررة، وربما بصور متشابهة، وبسعر واحد، وفي أوقات طبع شديدة التقارب، واستراتيجيات توزيع متطابقة.على مدى الأسبوعين اللذين أمضيتهما متابعاً للصحافة الكويتية عن كثب، عانيت كثيراً من تداخل العناوين واختلاطها؛ فقد ظلت قصة استجواب وزير الإعلام تتكرر يومياً بانتظام، كما ظلت التفصيلات ذاتها تعاد، بل إن صورة الوزير العبدالله "حاملاً الشنطة" والبرلماني الدقباسي، الذي يستهدفه بالاستجواب، "حاملاً الكيس"، ظلت تتكرر في أكثر من يوم وبأكثر من صحيفة، بشكل يعز فيه على أي متابع تمييز المعالجة الصحافية للموضوع أو اكتشاف زوايا جديدة تطرقت إليها صحف وغابت عن أخرى.يحظى البرلمان الكويتي بمكانة مميزة في المنطقة بالنظر إلى عراقته وسقف الحريات التي يتمتع بها ودوره في الحياة السياسية والاجتماعية بالبلاد، ولا شك أن قصص الممارسة السياسية عبره جديرة بكل اهتمام من الصحافة الكويتية بل الإقليمية أيضا في بعض الأحيان، لكن هيمنة البرلمان وأخباره على المجال العام، واختزاله للسياسة، واحتكاره للاهتمام الإعلامي، والكثير من الاعتوارات التي تعوق أداءه تخلق ممارسات صحافية زاعقة وممعنة في التكرار ودافعة إلى الملل.ثمة قصة صحافية أخرى تكررت كثيراً، تتعلق بالاختلاف حول "شرعية" لعب المرأة كرة القدم، وما إذا كانت تخترق العرف، وتنتهك التقاليد، والأهم من ذلك "تخالف الشرع"، حين تنخرط في مداعبة الساحرة المستديرة، مرتدية الزي الرياضي المثير للجدل.وفي غضون ذلك، كان هناك موضوع يحظى باهتمام مميز، لكونه يتعلق بخلاف إيراني-عربي حول تسمية الخليج؛ حيث تصر الدولة الإيرانية على كونه "فارسياً"، باعتبار أن هذا هو "اسمه التاريخي" فيما يرى معظم العرب أنه "عربي"، بالنظر إلى أن سبع دول عربية تطل عليه في مقابل دولة فارسية واحدة.يشبه الوضع الصحافي الكويتي حالة الكويت بأسرها... حلبة ضيقة مغلقة تحوي عدداً محدوداً من الأسود الفائرة بالقوة والطاقة، حيث ترغب جميعها في أن تعبر عن ذاتها وأن تحظى بالأوضاع المميزة؛ فلا يصبح أمامها سوى أن تصارع بعضها بعضا، أو أن تتسابق في حيز دائري يأخذها عادة إلى التصادم.رفدت الكويت الواقع الصحافي والثقافي العربي بالكثير من الإشراقات، وبذلت جهوداً كبيرة في تعزيز النشاط الإبداعي في المنطقة، وأثرت وجدان طبقة واسعة من المثقفين العرب عبر مشروعاتها الثقافية والفكرية والصحافية المبهرة على مدى عقود ما قبل الغزو العراقي. لكن ما حدث في أعقاب التحرير كان ارتداداً عن النظرة الإقليمية والمقاربة الإيجابية المتفائلة بفعل الصدمة والإحباط، وهو الارتداد الذي تحول اكتفاء بأسوأ ما يطرحه الشأن المحلي وإمعاناً فيه، ليصل إلى انكفاء على اعتوارات الداخل وسلبيات الذات.ظلت الكويت، وستبقى، معيناً لا ينضب للحرية والإبداع في الخليج والمنطقة بأسرها، وهي تحظى بحالة صحافية مميزة ونشطة وفعالة، وتمتلك فصيلاً من الصحافيين والكتاب النابهين المؤثرين على الصعيدين المحلي والإقليمي، لكن صحافتها أسرفت كثيراً في الاكتفاء بالذات، والانكباب على القصص المتكررة، والموصولة حكماً بأطر مرجعية ثلاثة: التنازع السياسي العبثي عبر البرلمان، والتشاحن الطائفي، والإغراق في معارك التدين الشكلي.لن تخسر الصحافة كثيراً، وكذلك الكويت، إذا أصبحت صحفها سبعاً أو ثماني فقط، وباتت أكثر قدرة على تحقيق التوازن بين نفقاتها وإيراداتها، وأكثر بعداً عن أغراض جماعات المصالح، وأقل اهتماماً بنزاعات البرلمان العبثية، وصراعات الطوائف المتلوثة، وسخافات المتأسلمين الممجوجة.تحتاج الكويت إلى صحافة أكثر تعبيراً عن نضجها المجتمعي وعمقها الحضاري والثقافي، وأقل انكفاء على اعتوارات الداخل والذات، وأكثر ارتباطاً ببعدها الإقليمي والدولي. كما تحتاج إلى أن تتحرر من محاولة استخدامها لتسد الفراغ الناجم عن عدم وجود أحزاب سياسية، ومن تحولها إلى أداة لتكريس مكانة مالكيها وتعزيز وجاهتهم، وهي المسألة التي حدّت من قدرتها على تمثل القيم المهنية وإعطاء الانطباعات الأفضل عن نفسها وعن المجتمع الذي تعبر عنه.* كاتب مصري
مقالات - زوايا ورؤى
عن صحافة الكويت
07-03-2010