على هامش قضية السور

نشر في 27-12-2009 | 00:00
آخر تحديث 27-12-2009 | 00:00
 ياسر عبد العزيز يظن كثيرون أن أي منظومة إعلامية لا يمكن أن تحقق ازدهاراً وتقدماً إلا إذا تمتعت بأكبر قدر ممكن من الحرية، ويعتبرون أن تطور الإعلام في مجتمع ما يرتبط ارتباطاً طردياً بدرجة الحريات التي يتمتع بها... والواقع أن تلك قناعة تحتاج إلى مراجعة.

لا شك أن الحرية مطلب حيوي لأي جماعة إنسانية تنشد الحداثة والتقدم، ولا شك أنها الفضاء اللازم لاحتضان أي نشاط إنساني في أي مجال من المجالات، بالإضافة إلى كونها شرطاً رئيساً وضرورياً لكل الأنشطة التي تتصل بالفكر والثقافة والإبداع، وفي قلبها الإعلام، لكنها، وعلى عكس الرائج، لا ترتبط طردياً باحتمالات النبوغ في هذا النشاط، ولا تعمل على النحو الأمثل عادة من دون سقف يحدد مسؤولياتها ويقنن أداءها.

تصدر منظمات دولية عديدة تقارير دورية عن حرية الإعلام في مختلف بلدان العالم، وتعمد تلك المنظمات عادة إلى تصنيف الدول تنازلياً وفقاً لدرجة إتاحتها للحريات الإعلامية، وترسي قواعد معينة تقيم على أساسها مواقف البلدان؛ ومنها: سهولة إصدار الصحف وإطلاق القنوات الفضائية والإذاعية، والعقوبات السالبة للحرية بحق الإعلاميين، أو التهديدات والمخاطر التي تمس حياتهم أو تؤطر طريقة أدائهم لعملهم، أو سحب التراخيص والتعطيل الإداري، وغيرها من المؤشرات المشابهة.

وعلى غير الاعتقاد السائد، فإن دولاً مثل أيسلندا وفنلندا ولوكسبمبورغ والنرويج تحتل مراتب الصدارة في تلك التصنيفات العالمية ذات الاعتبار، والأكثر من ذلك أن دولاً أقل تطوراً اقتصادياً واجتماعياً مثل سلوفينا وناميبيا تأتي في مراكز متقدمة نسبياً مقارنة بدول أخرى ذات تاريخ سياسي واجتماعي عريق مثل المملكة المتحدة، التي تعرف بكونها موطن الديمقراطية، أو فرنسا بلد الحريات، أو الولايات المتحدة أحد أهم معاقل الليبرالية على المستوى العالمي.

والشاهد أن تلك الدول التي تعرف أكثر قدر من الحريات الإعلامية والاجتماعية والسياسية لا تمتلك منظومات إعلامية قادرة ونافذة على المستوى المحلي أو العالمي، وفي الوقت ذاته فإن البلدان التي تتصدر المشهد الإعلامي العالمي لجهة الكفاءة والهيمنة والرواج مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا تأتي في مراتب متأخرة نسبياً على هذا الصعيد.

في مطلع الشهر الجاري صوتت أغلبية كبيرة في مجلس النواب الأميركي على مشروع قرار يلزم الرئيس أوباما بتقديم تقارير دورية عن وضع الإعلام في منطقة الشرق الأوسط، للعمل على رصد أصحاب الأقمار الاصطناعية والقنوات الفضائية التي تقدم رسائل «تحض على كراهية أميركا وتشجع على الإرهاب»، توطئة لفرض عقوبات على القائمين على تلك الأقمار والقنوات أو إيقاف بثها.

وفي شهر أكتوبر الماضي، كان المجلس الأعلى للإعلام السمعي والبصري في فرنسا يبحث سبل إيقاف بث قناة «الأقصى» التابعة لحركة «حماس» وقناة «الرحمة» المصرية على قمر «الهوتبيرد»، استناداً إلى نجاحه في وقف بث قناة «المنار» التابعة لـ«حزب الله» اللبناني، في عام 2004، رغم نجاح القناة في الحصول على موافقة المجلس الدستوري بمواصلة بثها آنذاك، قبل أن تصوت الحكومة الفرنسية على إيقاف البث وتنجح في ذلك.

لا يبدو من المستساغ أن يبرر أي إعلامي إجراءات أو قيوداً تفرض على المنظومة الإعلامية في أي بلد من البلدان، كما أن الممارسات الإعلامية الشرق أوسطية التي تستهدفها الدول الغربية الكبرى ربما لا تستحق هذا الاستهداف، لكن ثمة ممارسات إعلامية تذهب إلى أقصى درجات الانفلات وتفتئت على كل الاعتبارات المهنية والقانونية وتشكل تهديدات ومخاطر جمة على الأوضاع السياسية والأمنية والإعلامية والاجتماعية في بعض المجتمعات.

في شهر نوفمبر الماضي نشبت معركة شرسة بين فعاليات مصرية وجزائرية على خلفية أحداث عنف وشغب على هامش منافسة كروية محتدمة ومهمة بين البلدين، وكان لافتاً أن ثلاثة أرباع تلك المعركة دارت فقط في الإعلام وتطورت فقط بسببه.

وقد تصاعدت حدة التشاحن الإعلامي بين البلدين إلى درجة ارتكاب جرائم قانونية مكتملة الأركان في حق البلدين والشعبين من وسائل إعلام معظمها خاص وبعضها حكومي، حيث وصلت الإساءات المتبادلة إلى مرتبة من التدني قياسية، حتى ظن كثيرون أن البلدين على شفا حرب حقيقية. وقبل هذه الواقعة بشهرين، كان الجمهور المصري مشغولاً بتحقيقات قضائية تجري مع صحيفة محدودة التوزيع اتهمت فنانين مرموقين بممارسة الشذوذ الجنسي من دون أن تفلح في تقديم أي برهان أو دليل على صدق ادعائها.

وفي السنوات التي تلت احتلال العراق تغيرت معالم خريطته الإعلامية تغيراً كبيراً، فصدرت عشرات الصحف وانطلقت فضائيات عديدة، لكن قسماً لا يستهان به منها راح يروج لطائفية وعنصرية بغيضة، ويعمل، من دون أي ضوابط مهنية، على تعزيز أجندات مشبوهة، جعلت كثيرين يترحمون على أيام الانغلاق وكبت الحريات.

على كل مجتمع أن يفسح المجال أمام وسائل الإعلام لكي تؤدي أدوارها المختلفة، وتحقق المكاسب التي ترجوها، وتبلور مطالب جماعات المصالح التي تقف وراءها، لكنه يجب أيضاً أن يكون قادراً على تشخيص المخاطر التي تستهدفه حسب درجة المناعة التي يتصور أنه يتمتع بها، وأن يكون حازماً في إنفاذ القانون وتفعيل مرفق العدالة لمقابلة التجاوزات الإعلامية المسيئة والضارة.

ليس هناك أسوأ من إغلاق تعبير إعلامي أو التضييق على حرية الإعلام سوى ما قد ينتج عن مخاطر الانفلات وتجاهل المعايير المهنية والاستهانة بالقانون واستخدام الصحف والفضائيات في تصفية الحسابات والنيل من الآخرين وتلطيخ سمعتهم وفتح الباب على مصراعيه للفتن والصراعات.

* كاتب مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة 

back to top