لا أعرف ما الذي تبحث عنه هذه المرأة، وهي فوق ذلك تبدو لي أحياناً، كأنها شخصية روائية، كأنها خارجة من كتاب. امرأة لا يشغل بالها الا أشياء ثلاثة على وجه الدقة والتحديد، المقابر والموسيقى والملائكة.
ما الذي يجعل امرأة، لها مقدرة فائقة على الاستحواذ، والإنصات والحديث بدقةٍ متناهية تنشغل بهذه «الصرعات الثلاثة»؟كلما التقيتُ هذه المرأة، عادة ما يجري الحوار على النحو التالي:- منْ اين جئتِ يا باربرا؟- من المقبرة القريبة من بيتي، كنتُ أتحدثُ مع الملائكة!- وإلى أين أنتِ ذاهبة؟- إلى البيت لأستمع للموسيقى... لا أحد لي في هذا العالم.هذه أسئلتي، وهذه اجوبتها، في مشوارها اليومي. وعندما أزيد قليلاً أسألها:- وما الذي قالته لك الملائكة هذا اليوم يا باربرا؟- انها راضية عني.في حياتي كلها، لم أرَ مخلوقاً غريباً على هذه الشاكلة.أحياناً عندما أكون في مزاج رائق، أقول لها:- سأنتظرك في المقهى.وعندما تأتي وتجلس، تغمض عينيها قليلاً ثم تروح لتتحدث مطولاً عن أهمية وجمال المقابر في العالم، كأنها تريد ان تدفن البشرية كلها، دفعة واحدة. وقد لا يبدو الامر غريباً، عندما تتحدث بجدية خارقة للعادة، دون أن تسمح لأحد بمقاطعة حديثها. ثم ان كلامها نفسه يبدو منغماً، كأنها تتحدث بجمل موسيقية، وليس باللغة، كأن ملاكاً يُبربر من فمها.ليست هذه المرأة مجنونة كما قد يُظن، انها ببساطة وحيدة في هذا العالم. عاشت حياتها - وما تزال - طولاً وعرضاً مع الملائكة في المقابر بأنغام الموسيقى. أظن ان سيوارن كان يمكن أن يكون اكثر سعادة في حياته لو انه التقى امرأة كهذهِ. وعندما تتحدث باربرا معك عن نفسها، فينبغي أولاً فكّ مجموعة من الألغاز والخيوط التي تلف حياتها، والتي هي أشبه ببكرات لا نهائية. الخيط الأول ربما يبدأ من جذورها الغجرية القديمة، من جهة الأم تحديداً. والخيط الآخر من اسمها الذي يعود الى «الاجنبي» أو «الخارجي»، أو «البربري»، في عهد الامبراطورية الرومانية، ولكي تؤكد ذلك ستقول لك:- انظر، بشرتي شقراء، وشعري أشقر لكن عيني سوداوان، هذا ما أحبه لأن هويتي متعددة، لأنني صنيعة هويات مرتحلة وممتزجة على الدوام.كنتُ في السادسة عشرة من عمري عندما كنتُ أعمل في المقابر، كنتُ أعتني بها، بالزهور، بتصفيف الحجارة، وتلميعها، كنتُ أقود أوركسترا الأموات يا عزيزي، ولم أكن أخاف، الوحيد لا يخاف أبداً، ثم ان المقابر هي أكثر الاماكن اماناً في العالم. صدقني. في ستوكهولم مقابر كبيرة، في غابات حقيقية، ومن يزورها ولا يعرف المكان، قد يضيع، قد لا يخرج منها، وقد يعتبر ميتاً ان لم يعد. هل تعرف كنتُ ذات مرةٍ في المغرب، في شفشاون، ورأيت جنازة، تابوتاً يحمله عدد قليل من الناس، وكانوا يغنون، كانوا يذهبون بالميت الى الجبل، وكنت انا الاسكندنافية وحيدة تماماً، كنتُ أراقبهم في البداية ثم شاركتهم، مشيتُ وغنيت معهم ودفنّا الميت ثم عدنا. في بعض المناطق الاسبانية الوضع يختلف. لقد رأيت مرة مقبرة موحشة، تقطع القلب، حجارة فوق حجارة، وطبقات فوق طبقات، مقبرة اشبه بعمارة مصغّرة، أو مناحل العسل، صدقني لقد رأيت هذا، وكاد يغمى عليّ، لقد كرهتها، كيف يُحشر جسد الانسان في مكان كهذا، «انهم لا يعرفون أن الأموات يتنفسون أيضاً».
توابل
محادثة على مأدبة 1
30-06-2010