-1-

Ad

استغلت بعض وسائل الإعلام العربي السطحي والطفيلي، مقالي في الأسبوع الماضي هنا في «الجريدة» بعنوان «لماذا خابت آمالنا في العراق الجديد؟»، وراحت هذه الوسائل تخترع عناوين جديدة للمقال من قبيل «الكاتب الليبرالي شاكر النابلسي يعلن ندمه عن تأييد غزو العراق!» وهذا ما كان يتمنى أن تسمعه وتشاهده هذه الوسائل، التي دأبت على دعم الإرهاب الدموي في العراق، وعلى الفوضى السياسية التي أحدثتها النخب السياسية العشائرية والطائفية حتى الآن، ومنذ سبع سنوات خلت. وأريد في مقدمة هذا المقال اليوم، أن أؤكد حقائق تجاهلتها وتناستها بعض وسائل الإعلام العربي السطحي والطفيلي:

1- أن إيماني بتحقيق الديمقراطية العراقية في يوم ما، لا سقف يحده، أو يوقفه. وهو إيمان نابع من حتمية الديمقراطية العربية، التي سوف تتحقق في يوم ما، بعد أن تتوافر الموجبات والوسائل الضرورية التي توافرت للشعوب الأخرى. فمن غير المألوف، بل هو واقع شاذ، وخارج عن منطق التاريخ، أن تبقى هذه البقعة (العالم العربي) من العالم محكومة بنظم دكتاتورية واستبدادية، لا حقوق فيها للإنسان، ولا تحقيق فيها للعدالة.

2- والحقيقة المهمة التي أريد التركيز عليها هنا، أنني فعلاً فقدت الأمل في النخب السياسية اللاعبة الآن على أرض الواقع في العراق. وأرى أن أميركا بحملتها على العراق 2003 قد خُدعت خديعةً كبيرة بهذه النخب التي دفعتها إلى أن تقوم بحملة عسكرية، لا سابقة لها في تاريخ أميركا، ومن أغلى الحملات تكلفة في التاريخ البشري والعسكري، دون أن يكون لها مردود مجزٍ. فماذا أخذت أميركا من العراق حتى الآن مقابل هذه الحملة التي كلفتها غالياً في المال والجيش والسمعة السياسية، وكانت سبباً في انقلاب سياسي أبيض في داخل أميركا، حيث تمت هزيمة الحزب الجمهوري الأميركي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة شر هزيمة، لم تشهد أميركا مثيلاً لها؟ وكان قائد هذا الانقلاب السياسي الأبيض أوباما، والحزب الديمقراطي.

3- لقد أعلنت أميركا أكثر من مرة وعلى لسان مسؤولين كبار من الإدارة الجمهورية السابقة، ومن الإدارة الديمقراطية اللاحقة، خيبة أملها في الزمر السياسية العراقية، خاصة بعد تقارير «منظمة الشفافية الدولية» المتلاحقة عن الفساد في العراق. وبلغ الكذب والدس في بعض وسائل الإعلام الإلكتروني العربي حداً ألصق تهم الفساد بالإدارة الأميركية ذاتها، وبرّأ السياسيين العراقيين من وزرها. ربما يكون لبعض الشركات الأميركية العاملة في العراق دور في حجم الفساد العراقي، ولكن هذا لا يعني براءة الزُمر السياسية العراقية من هذا الفساد، الذي قالت عنه «منظمة الشفافية الدولية» في أحد تقاريرها، بأنه «أبشع فساد شهده تاريخ البشرية». فكما أعلنت أميركا من قبل خسارتها وخيبة أملها في النُخب السياسية العراقية التي تتعارك عراك الوحوش الضارية على الفريسة العراقية، دون أن يتنازل فريق لآخر، حقناً لمزيد من دماء العراقيين، وتداركاً لمزيد من الكوارث والمصائب القاتلة للعراق. وكأن العراق أصبح بستان فاكهة، بلا حارس شديد وقوي، ومشاعاً لكل سارق وناهب ومدمر، بلا حسيب ولا رقيب.

4- إن فقدان الأمل في الزمر السياسية العراقية الحالية، لا يعني بأي شكل من الأشكال فقدان الأمل في العراق. فالعراق هو ثدي الأمل العربي المدرار، والعراق كان على مدار الزمان والأجيال، طائر الفينيق المتجدد دائماً بعد كل حريق مروّع. ثم من قال إن العراق هو سياسيوه فقط؟ وللحقيقة فإن أسوأ ما في تاريخ العراق هم سياسيوه. وقد قرأنا هذا، وحزنّا من أجله حزناً عظيماً منذ العصر الأموي وانتهاءً بعصر حزب البعث، فمنذ ذلك العهد حتى الآن، لم يشهد العراق يوماً سياسياً، سادت فيه العدالة، يشاد به، أو فجراً سياسياً مشرقاً يُمتدح. بل أذاقت كل العهود ومن حكم فيها العراق، أبشع صنوف الطغيان، والفساد، والسلب، والنهب. ومازال العراق حتى الآن– وللأسف الشديد– تحت هذا المزراب من الفساد، والسلب، والنهب، والطغيان. ولعل ما يُحكى الآن عن مآسي «سجن المثنى» هو فصل من فصول هذه المأساة العراقية، التي مازالت تُعرض على مسارح البشرية، منذ أكثر من 15 قرناً من الزمان.

5- وأخيراً، فبعض وسائل الإعلام التي اتخذت من مقالي السابق وسيلة للطعن في الليبرالية والليبراليين، لم تنجح في مسعاها. فالليبرالية لا يقيمها مقال ولا يهدمها مقال. ولي أعناق النصوص– وهذا ما يتم حتى في النصوص الدينية المقدسة- واستعمالها لتلميع إيديولوجيات معينة، لم تعد خافية، بقدر ما أصبحت مكشوفة ومعروفة، في عصر ثورة المعلومات والتكنولوجيا، والتقدم العلمي المذهل، وخروج المتلقي العربي من سجون الحقائق المطلقة.

-2-

سبق أن قلنا، إن أميركا بما تملكه من قوة عسكرية وسياسية ومالية، تستطيع الإطاحة بأي نظام حكم ترى مصلحتها في إطاحته، فيما لو جاءت الرياح بما تشتهي السفن. ولكن أميركا لا تستطيع بأي حال من الأحوال أن تُوجد وبـ"كبسة زر" نخباً سياسية شفافة ونزيهة ونظيفة. فهذه العملية لها علاقة مباشرة بالتربية، وبالتربية السياسية والإرث السياسي عامة. ونحن نعلم ومن قرأ تاريخ العراق القديم والحديث يعلم، وكذلك من قرأ تاريخ العرب القديم والحديث يعلم أيضاً، أن العرب ومن ضمنهم العراقيون لم ينالوا قسطاً قليلاً أو كثيراً، ضئيلاً أو وافراً، من التربية السياسية الشفافة، ولم يكن لهم قدوات (جمع قدوة) سياسية شفافة وعادلة، تقتدي بها الأجيال التالية من السياسيين.

-3-

فماذا يمكن أن تفعل دولة كأميركا حيال هذا التاريخ الممتد من الطغيان، الضارب جذوره الغليظة في التربة العربية والعراقية خاصة؟

إن ما يؤخذ على أميركا في هذا الشأن في العراق والعالم العربي عامة، أنها لم تُهيىء الأرض القابلة للإنبات الديمقراطي، فأرادت فرض الديمقراطية من فوق بواسطة النخب السياسية التي خيبت أملها وأملنا وأمل كل محبي العراق. والذين راهنوا على انبثاق فجر الحرية والديمقراطية على أرضه، وتهيئة الأرض القابلة للإنبات الديمقراطي في هذه الحالة، لا يكون إلا بالتعليم والتربية والثقافة، وهذه وسائل طويلة الأمد، وليس بالصواريخ والجيوش الجرارة السريعة النتائج، وهو ما اعتادت عليه الحياة الأميركية عامة.

فالصواريخ والجيوش أداة اقتلاع، والتعليم والتربية والثقافة أدوات زراعة وإنبات وإبداع. فهل يُصلِح العطار الأميركي ما أفسده الدهر في العراق؟!

* كاتب أردني