الشاعر وشاعر المرحلة
أدونيس وسعدي يوسف وآخرون شعراء ذوو مواقف، في نثرهم النقدي وفي شعرهم النقدي، ونتاجهم تَبنّى المهمةَ النقديةَ الهادفةَ منذ مرحلة مبكرة، وإذا كانت عقائديةُ سعدي الهادفة سياسيةً بالدرجة الأولى، فإن عقائديةَ أدونيس الهادفة حداثية بالدرجة الأولى.شعراء آخرون يتوزعون على مواقف نقدية عديدة في شعرهم، لكنهم لا يكادون يخرجون عن هذين التوجهين.
أدونيس يدفع موقفه النقدي باتجاه التسامي الحضاري الرفيع، سعدي باتجاه التدني الجماهيري، وكلا الشاعرين له تأثير بالغ الخطورة على المناخ الشعري العام.فجماهير الشعر، منذ قرابة نصف قرن تخضع، أسوةً بكل الناس، للمؤثرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتردية، لذلك تبدو سريعةَ التأثر والاستجابة للدعاوى العقائدية الموجهة، من حيث صياغة تكوينها الثقافي والروحي.عقائدية أدونيس المتحضرة المتسامية استجابت إلى استثارات صحافة التسلية الثقافية، في حواره الطويل المتأخر في جريدة الحياة، كان مُهذّب اللسان، بليغ الوعي النقدي بشأن الظواهر والأفكار الشعرية، لكنه لم يستطِع أن يعلو على إغواء (رأيك في فلان وعلان...) الأثيرة في صحافتنا الثقافية، لقد غفل عن أن رأيه في الأصوات الشعرية لم ينزلْ ساحةَ كتبِه النظرية والنقدية الكثيرة مطلقاً، فلمَ تركها سائبةً في حوار رصين كحواره؟ ولمَ لاحق أسئلةَ الصحافة بدل أن يقودها هو؟عقائديةُ سعدي السياسيةُ الجماهيريةُ وليدةٌ أمينة للمرحلة، حين قذف منتظر الزيدي الحذاء على بوش كان الحدث، في العقل العربي، هزيمة أميركية، وكان، في العقل الغربي، فعلاً مدهشاً، لأنه عادة ما يتم ببيض، أو أصباغ في العالم الديمقراطي، لكنه تم هنا بحذاء، وهذا الفارق لا يميز العراق الديمقراطي عن العالم الديمقراطي إلا بفارق أن العرب يحتقرون الحذاء بلا سبب، كما يحتقرون الكلب، بينما العالم يعشق الكلب، ويقيم معارض فنية لتاريخ الحذاء، وتنوع تصاميمه. هذه الأمانة في إعلان الهزيمة الأميركية بحذاء عربي، واحتقار الديمقراطية (العراقية بتخصيص) التي تتعامل مع الحذاء كما تتعامل مع البيض والأصباغ (بدليل أن الزيدي اعتقل وسجن بحكم قضائي تسعة أشهر، بدل أن يُغيّب في حوض الأسيد في تقاليد الحكم العربي!)، أقول إن هذه الأمانة للمرحلة سرعان ما تجسدّت في قصيدة لسعدي يوسف كتبت في المناسبة: "مرحباً، منتظر" 13-9-2009، ولم أطّلع عليها إلا متأخراً، يقول فيها مخاطباً بطله الأمين هو الآخر للمرحلة:احذَرْ، يا منتظِرُ!/ القتلُ (وأعني قَتْلَكَ) صعبٌ في السجنِ،/ ولكنّكَ، يا منتظر الزيديّ، ستبقى هدفَ المحتلِّينَ الأوّلَ./ لن ينسَوا أنكَ وحّدتَ العَلَمَ الوطنيَّ،/ جعلتَ العَلَمَ الوطني/ يُحَلِّقُ مقذوفاً/ ويُصيب...الذي حدث أن بطلَه منتظر خرج من السجن المُختزل إلى فردوس الإعلام العربي، ثم إلى بلدِ المحتلين مباشرة، وحقق هناك مجداً إعلامياً يحسدُه عليه كلُّ طامعٍ بمجد إعلامي خاطف، ومنتظر أكثرُ شطارةً من أن يجهل ذلك. أمانةُ الشاعر سعدي للمرحلة أهّلته لشطارةٍ لا تقل عن شطارةِ (المناضل) منتظر، فهو الآخر، بعد أن صرفَ العمرَ الشعريَّ في تسليط الضوء على "المدن المصرفية"، "مدن الظلام واللصوص" الغربية الإمبريالية، جاءها لاجئاً سياسياً، وحقق فيها مجداً إعلامياً يحسده عليه كلُّ طامع بمجد إعلامي من شعراء المرحلة.هذا المذاق وفّر للشاعر فيه أكثرَ من دافع للمزيد من إلقاء الضوء، لا على "المدن المصرفية" وحدها، بل على عملائها من العراقيين، الذين اتسعوا في نثر وشعر سعدي الهجائي، حتى تجاوزوا النسبة الكبرى من الشعب البائس، وتهمةُ العمالة، كما نعرف، لا تأخذُ بالكمّ بل بالكيف. فسعدي، شأن كل عقائدي، ينتسبُ وينتصر للجماهير، لا للناس، فالجماهيرُ هم طليعة الناس في عُرف الأحزاب، هم جماهير المظاهرة السياسية، لذلك يبدو تخوينه لملايين العراقيين الذين شاركوا في الانتخابات مشروعاً، ومنطقياً! وسعدي يعرف، معرفة الخبير، أنه بمقدار ما يكون فيه معادياً للإمبريالية، يكون مقبولاً ومُحتضناً من قبل الإعلام الثقافي الغربي، الأمرُ الذي قد يبدو مفارقةً للذي لا يفهم الغرب عن قرب، ولقد حاول ويحاول آخرون طريق سعدي هذا، لكنهم لم يوفّقوا توفيقه.مأخذي على أدونيس أنه تعالى على شعراء جيله في كتبه النقدية والنظرية، ومكانتُهم معه هناك، لكنه بدا كمن ينحدر إليهم بيسر في صحافة الإثارة، أما سعدي فلا مأخذ لي عليه، فالرجل شاعرٌ محمول على أكتاف متظاهرين، وأمين وإياهم للمرحلة التي انتصر فيها العرب على أميركا بحذاء.