كما أن للجنّ ملكاً بتاج وصولجان، اسمه شمهروش، يسكن في المغرب، فإن للساخرين ملكاً بتاج وصولجان ورتبة وعصا، اسمه محمود بن عثمان بن محمد بن علي السعدني، يسكن في مصر. وهو من السعادنة لا السعادين. واسمه بالإنكليزية، مهمود سأدني، كما يدّعي. وهو سعلوكي، والسعلوكي مثل الصعلوكي لكنه النسخة الخوّافة.

Ad

وأن تكون أسخر الساخرين في مصر، إذاً أنت أسخر الساخرين في العالم، من الجلدة إلى الجلدة. فمصر هي حارة السقايين في السخرية، والسعلوكي هو صاحب أكبر بئر ماء فيها. هو السقّاء الأكبر. هو الذي تتوافد إليه قوافل القراء الظمأى فترتوي قهقهة وثقافة ورأياً. هو الذي ينثر مياه سخريته ببذخ، فتسيل الوديان، وتتقافز الأسماك الملونة، وينهزم صفار الأرض أمام خضارها. كي تقرأ له، فأنت في حاجة إلى أبواب ومفاتيح وخلوة، حتى لا يظن بك أبناؤك الظنون، بعد أن يسمعوا قهقهاتك وأنت تجلس وحيداً.

وأمس الأول، انهمرت رسائل سوداء عليّ كالمصائب التي لا تأتي فرادى: «مات الملك»، «أحسن الله عزاءك في الولد الشقي»، «مات السعدني»، «العبد لله مات»، «مات عمّنا». رسائل بلهجات مصرية وكويتية كُتبت بوجوم، فضجّ صمتي، وتذكّرت أنني قبل موته بأربعة أيام كنت أتحدث مع ابنه الأكبر «أكرم» الذي طمأنني على تفاصيل علاجه.

إذاً أطفأ «الولد الشقي» سيجارته الأخيرة وخلع قبّعته وأزاح عصاه، وهو الذي تمرمط مرمطة المرمطين في حياته. الذي جاع فشبعت الضباع. الذي حقق الرقم الأولمبي في التنقل بين الصحف والمطبوعات في فترة قصيرة، وتضاحكَ عليه أبناء البقر، وعلا خوارهم. الذي قضى عمره بين السجون السياسية والمنفى والشتات، ووصفته ردّاحات السلطة بأنه «رد سجون». الذي تبدد خصومه كالدخان وتلاشوا، وبقيت شجرته أصلها ثابت وفرعها في السماء.

إذاً غاب «العبد لله» الذي تسمع في كتبه ومقالاته أصوات الباعة، وخناقات الأطفال، وضحكات الحشاشين، وأحاديث النساء المتبادلة من البلكونات... وتشاهد فيها الأزقة، وسوق الثلاثاء، وبائعة الفل، والواد «ريعو» القهوجي بملابسه الرثة، والمعلم كتكوت صاحب القهوة بغروره الخاوي...

ذهبَ «ابن عطوطة» إلى وجهته الأخيرة، وهو الذي يختلف عن ابن بطوطة، وكلاهما كثير السفر، لكن الأخير ابن البط، والبط طائر شديد الوخم، شديد الكسل، غاية رحلته لفة في بحيرة، أو نزهة في بركة، بينما صاحبنا ابن العط، والإنسان يعط حتى يزهق، وأحياناً حتى يغمى عليه.

اختفى مؤسس حزب «زمش»، وهو اختصار «زي منتا شايف»، الذي أسسه في السجن، وكانت أولى مهام حزبه تجميع أعقاب السجائر التي دخّنها الضباط والعساكر وأطفؤوها دهساً بالأحذية، ليتم تنظيفها وتدخينها من جديد.

نام صاحب أشهر المقالب في تاريخ مصر، وكان من يقع بين يديه يطلب له الناس الرحمة والمغفرة. وبالرغم من أنه أكثر من شجّع الشبّان الموهوبين فإنه ابتُلِيَ أحياناً ببعض الأغبياء، وكان أن أزعجه شاب غبي بكثرة إلحاحه عليه ليدخله الصحافة، فقرر السعلوكي أن «يسهر عليه»، فأقنعه أن الصحافة مهنة المتاعب والمصاعب، لذا فلنختبر قدرتك على التحمل، والاختبار الأول هو «الرزع على القفا»، وراح يرزع الشاب على قفاه، والشاب يصرخ أي، فينهره: «اجمد»، ويرزعه، و»اجمد»، ثم جاء اختبار «الأصباغ»، فدلق السعلوكي عليه كل الأصباغ الموجودة في قسم الكاريكاتير، وأيضاً «اجمد»، ثم جاء دور اختبار «الركل بالشلوت»... اختبار علمي على مراحل.

عنك يا صاحب المقالب، يا سعلوكي، يا عطاط، سأكتب وأكتب وأكتب. لكنني الآن في طريقي إلى المطار بحثاً عن أول رحلة إلى القاهرة، ومن مطارها إلى مرقدك. فانتظرني هناك. انتظرني فقد أبكيتني اليوم بقدر ما أضحكتني سنواتٍ وعقوداً. سامحك الله، كم يلزمنا من الحزن عليك.