في حقل نشر الشعر في الستينيات كانت دور النشر المعروفة تنصرف لأصوات جيل الرواد الأسبق. كان شعراؤه حينها أقل من أعمارنا اليوم بكثير. أما جمهور الشعر فظل يعتمد، بحكم القاعدة الدائمة وأسوة بدور النشر، على الكتاب معياراً للتقييم. كنا ننتظر مفاجآت دار «الآداب» ودار «شعر»، وإعلاناتهما عن الإصدارات الجديدة في مجلاتهما المعروفة. عبر الكتاب وحده عرفنا، نحن العراقيين، خليل حاوي، عبدالصبور، حجازي، يوسف الخال، أدونيس، أنسي الحاج، وعشرات آخرين. وكنا قد عرفنا عن قرب شعراءنا العراقيين: السياب، نازك الملائكة، البياتي، بلند الحيدري، حسين مردان، بالطريقة ذاتها.

Ad

حين عزّزت «ظاهرة المهرجان» دورَها الطاغي، (وكانت مبادرة سلطة البعث في العراق حاسمة في خلق هذه الظاهرة، ثم شاعت محاكاتها من قبل الأنظمة العربية!) أصبحت هي بديل الكتاب، وأصبحت دور النشر، هي ومنشوراتها الشعرية وجمهورها، تتمسّح بأذيال المهرجان.

فورة الستينيين نضجت قبل هيمنة ظاهرة المهرجان هذه. كُتبُنا الشعرية الأولى طُبعت على حسابنا الخاص. وكان هذا السبيل متطابقاً بصورة كبيرة مع طبيعة الفورة المحتفية بالنفس. كنا نحتفي بما يصدر عن دور النشر الكبيرة في بيروت، ونحتفي بما يصدر لشعراء جيلنا، بالمقدار ذاته من الحماس. كلا الإصدارين من كتب الشعر يُقرأ بعناية، ويُناقش بحماس في المقاهي، أو في الصفحات الثقافية.

«ظاهرة المهرجان» - المخلوق العراقي الشائه! - بدأت تأخذ دورها الفاعل في السبعينيات، ولكن لا على الأرض العراقية وحدها، بل في عموم العالم العربي، بفعل هوَس سلطة البعث الإعلامي بالبعد القومي. والهدف من هذا البعد القومي براغماتي، سياسي، بالتأكيد. كان جيلنا المسيّس ينتسب إلى اليسار الماركسي في الأعم الأغلب. ولقد بدأ مشروع هربه إلى الخارج في وقت مبكر، وكان على مرحلتين: الأولى إلى لبنان بعد انقلاب البعث في 1968، والمرحلة الثنية صار الهرب إلى كل مكان في العالم العربي والغرب بعد 1978. كان هذا الهروب مُتنفساً مريحاً لمشروع «البعث» الثقافي: التخلّص من مثقفي المعارضة العراقيين بالترهيب. وتكثيف الجهد في كسب المثقف العربي بالترغيب المالي. كانت خطة أكثر من ناجحة، وأكثرَ من مُثمرة. في الداخل اكتفوا بشاعرين بعثيين: حميد سعيد، سامي مهدي. ولم يستطع خالد علي مصطفى اللحاق بسبب ضعف انتسابه إلى الحزب، وضعف انتسابه إلى الشعر! بنوا لهم صرحاً في الإعلام الثقافي، أصبحوا بفعله عمالقة. لا في العراق، بل في العالم العربي كله. كُتبت عنهم المقالات والكتب في كل ركن من هذا العالم العربي، وصارت قاماتُهم داخل بهو المهرجان العربي تخترق السقف الشاهق. وبالمقابل وُضعت أسماؤنا، نحن الهاربين إلى المنافي، في قائمة الممنوعات في العراق، وفي قائمة التعتيم، والمنسيين في العالم العربي. يومها اتصلت بالدكتور الراحل سهيل إدريس من منفى لندن، لأعرض عليه كتاباً جديداً لي للنشر فاعتذر بحرج، لأن سوقه المعتمد في العراق، وكتابي لن يدخل العراق! وحين أخرجت سلمى الجيوسي مختاراتها الضخمة من الشعر العربي مترجمةً إلى الإنكليزية، أهملت قصائدي جانباً، معتذرة لي بأن الكتاب مموّل من قبل وزارة الإعلام العراقية، ومُهدى إلى السيد وزير الإعلام!

قائمة الممنوعين والمنسيين عن حضور المهرجان، صاروا بالضرورة ممنوعين ومنسيين من قبل دور النشر طبعاً. أصبحت أسماء أهم شعراء العربية من الجيل الستيني (باعتراف شعراء ونقاد العربية) في المنع، والظل. وبدأت بذلك أزمة نشر بالغة القسوة. القسوة التي شلّت كثيراً من المواهب الرائعة عن النشاط والمواصلة، بفعل اليأس، من أمثال مؤيد الراوي، عمران القيسي، عبدالرحمن طهمازي، جليل حيدر، وليد جمعة، رياض قاسم، شريف الربيعي. أما نحن الذين بقينا على شيء من المواصلة: حسب الشيخ جعفر، ياسين طه حافظ في داخل العراق، وسركون بولص، فاضل العزاوي، عبدالكريم كاصد، وأنا خارج العراق، فلم تشفع لنا مواهبُنا لدخول مهرجان شعر عربي، أو دار نشر عربية. إلى أن توافرت دور نشر عراقية في المنافي، وفي الداخل بعد التغيير!