في كتابه «200 فكرة»... يروي الراحل مصطفى أمين هذه الحكاية:

Ad

"كان الاقتصادي الكبير طلعت حرب باشا يثق ثقة عمياء بالشاب أحمد سالم، وقد أسند إليه عدة مناصب كبيرة في شركات بنك مصر برغم صغر سنه، وقفز به فوق رؤوس كبار موظفي بنك مصر وشركاته رغم وجود الكفاءات والعبقريات، وفشلت كل محاولات أصدقائه في زعزعة ثقته به، ولم يصدق التقارير التي كتبت ضده، ولا الدسائس التي حيكت حوله!

وذات يوم، كان طلعت حرب مريضا في بيته بحلوان، وذهب أحمد سالم للاستفسار عن صحته فقال له: أرجوك يا أحمد أن تحضر لي معك صباح غد (طبق فول) من محل التابعي، وكان التابعي أشهر صانع فول في مصر في ذلك الوقت، وذهب أحمد سالم إلى عمله، ثم سهر سهرة حمراء مع أصدقائه، وفي الصباح، ذهب لعيادة طلعت حرب في منزله، وقد نسي كل شيء عن طبق الفول المطلوب، وإذا بطلعت حرب يقول له: هل نسيت طبق الفول؟ وفوجئ أحمد سالم بالسؤال واضطر أن يكذب ويقول له إنه لم ينس، وادعى أنه ذهب في الصباح إلى محل التابعي فوجده مغلقا لوفاة أخيه، وسكت طلعت حرب ولم يقل شيئا.

وبعد انصراف أحمد سالم، استقل طلعت حرب سيارته وذهب إلى محل التابعي، فوجد المحل مفتوحا، ودخل وجلس إلى إحدى الموائد واستدعى الحاج التابعي وقال له: البقية في حياتك! وفتح الحاج التابعي عينيه دهشة، فسأله طلعت حرب: ألم يمت شقيقك؟ وقال الحاج التابعي: لا... وعاد يسأله: ألم يمت أحد من أقاربك؟! قال التابعي: لا... وسأله: هل تأخرت في فتح محلك؟! قال التابعي: لا... فتحت المحل في الخامسة صباحا كعادتي كل يوم!

وقام طلعت حرب باشا متجها إلى مكتبه في بنك مصر، وأصدر قرارا بفصل أحمد سالم من جميع مناصبه في الشركات والمؤسسات التابعة لبنك مصر، وسألت طلعت حرب باشا يومها: هل يساوي طبق الفول المدمس كل هذا العقاب الصارم؟ قال: نعم... إن الرجل يكذب علي في طبق الفول المدمس سيكذب علي في مليون جنيه، إن هذه وظائف ثقة، ومادام قد فقد ثقتي فهو لا يصلح للعمل معي!

وهكذا... أضاع طبق فول مدمس أكبر إيراد حصل عليه شاب في مصر في تلك الأيام!".

ونحن اليوم في الكويت نحتاج إلى تطبيق نظرية الفول التي ابتدعها طلعت حرب باشا، لأن دائرة الشك أصبحت تشمل الجميع، والكل يتهم الكل بذمته، وأنه سرق واختلس وانتفع، وأصبح كل مسؤول في إدارة حكومية متهماً بأنه لص، وكل نائب في البرلمان له ثمن، وكل وزير متهما بسرقة وزارته، والجميع يملك المستندات الدالة على صحة اتهاماته للآخرين، وسوف يظهرها في الوقت المناسب لأنه يحب المفآجات، ويأتي الوقت المناسب ولا يرى أحد هذه المستندات أو المفاجآت، لكنه يصر على وجودها، ونحتار من الصادق ومن الكاذب، صاحب المستندات التي يكتفي بالتلويح بها دون أن يقدمها للنائب العام أم المتهم المدان حتى تظهر براءته، ولذلك ليس لنا سوى اختبار طبق الفول ليثبت لنا براءة كل متهم في ذمته، ولنعرف بعد ذلك الصادق من الكاذب، لكن الخوف كل الخوف أن نلتقي جميعنا عند مطعم الفول، فجميعنا متهم في ذمته وضميره بلا دليل مادي واحد!

لأن القضية من أولها إلى آخرها هواية نمارسها ونستمتع بها، فنحن نتسلى بالتشكيك في ذمم الآخرين ووضعهم في قفص الاتهام، ولا نجد غضاضة في أن نتهم كل من نال شيئا لم ننله، وكل من وصل إلى منصب لم نصل إليه، وكل من رفض أن يسايرنا في تجاوز القانون وقبول الوساطات وتوظيف الأحباب والمعارف، في ذمته وفي شرفه وفي ضميره، وأن ننام بعد ذلك مرتاحي البال والقلب والضمير!