كنّا في ساحة «الملِفون»، في حيّ أصبح الآن أكثر الأحياء جاذبية في مدينة مالمو، حيّ يذكّر قليلاً بحيّ سوهو النيويوركي وهو يختلف عن سوهو اللندني الشهير. في هذا الحي يلتقي المهاجرون من بلدان عديدة ومختلفة، هنا تسكن فئة من الفنانين والكتّاب، الموسيقيين والشعراء، الرسامين ودهاقنة النبيذ، المتمردين وبائعي المهربات، أصحاب الأوشام والمهرجين وعشاق آخر الليل بعد نوم النهار. هنا المقاهي والمطاعم والحانات المفتوحة على الأرصفة في فصل الصيف، وهنا أيضاً خليط من اللغات والروائح والألوان. أجل هنا كنّا، صديقي القاص وأنا، دخلنا الى مشرب ماء الحياة وجلسنا في ركن مضاء بنور كتيم. الأحاديث تتواصل عن الهجرات والأمكنة. الصخب المحبب يعلو والموسيقى خافتة، وإذا بعاصفة من الجمال تغزو المكان كلهُ وتهدد الأرواح والأجساد القابعة في مكانها.
هل قلتُ امرأة؟ أجل امرأة وفي يدها شتلة صغيرة من الورد، وكأنها ميزت وبلمح البصر، وجوه الرواد تقدمت خطوات قليلة الى الركن.وبغرور جمالها المهذّب سحبتْ كرسيّاً وجلستْ قبالة صديقي على ذات الطاولة. لم تقلْ شيئاً انما مدتْ ذراعها وقدمت شتلة الورد الى صديقي قائلة:هديتي اليك في هكذا نهار رائع. وهي تُشير الى الخارج.يا لهذه البدايات الصعبة والمربكة، قلتُ في سري! فما كان من صديقي إلا ان دعاها على كأس من الشمبانيا الفاخرة. كان جمال تلك المرأة حزيناً ومرغوبا، أثيرياً، مدوّخاً، رسولياً وقاصفاً، بحيث يُشعرك بأنه ينبغي عليك ان تختفي من على وجه البسيطة فوراً.ثم توالت الأحاديث ونفهم من كلامها بأنها رسامة ومترجمة سويدية عن الإسبانية وعاشقة لموسيقى الشرق القديمة، وروحها تسكن الأندلس كما تسمي الجنوب الإسباني. يا لهؤلاء الفايكنج غريبي الطباع. ترى هل خلف ابن فضلان سلالة هنا؟ التاريخ يقول لا. لكن التاريخ في نهاية الأمر ليس سوى مسألة تأويل. بعد تلك الظهيرة الاستثنائية خرجنا، صديقي وأنا وحملَ معه انتصاره الكبير. كان الهواء منعشاً في الخارج والوقت لايزال مبكراً. صديقي الذي عاش حقبة من حياته في الإسكندرية، سحبته الذكريات فلم نجد انفسنا إلا أمام المشرب اليوناني. من مواهب هذا الصديق، العطاء وحس المشاركة مع الآخرين. ونحن في الداخل قدم شتلة الورد الصغيرة الى صاحب المشرب قائلا:هديتي اليك في هكذا نهار رائع وهو يُشير الى الخارج.سألتُه، في ظنك، ما الذي كانت تبحث عنه تلك المرأة؟ أمكنةَ الروح، أجاب.حدثت هذه الحكاية في صيف ما، ومضت الأيام وكلما مررتُ أمام حانة اليوناني، تُطلُ تلك الوردة الموضوعة بعناية على النافذة، نضرة وحمراء. أما المهاجر اليوناني الذي لا يعرف سرّها، فإنه يرعاها على الدوام كما لو كان يرعى روح الملاك، تلك المرأة التي مرت ذات يوم كالطيف، بحيث يُخيّل اليّ أحياناً بأنها لم تكن حقيقية أبداً.لبورخيس قصيدة بعنوان «ملتون والوردة» تقول بعض مقاطعها:بين أجيال الورود التي ضاعتفي قاع الزمن.أودُ أن تنجو وردة من غائلة النسيان.لا يميزّ رمز أو علامة عن الاشياء التي خلتْ.لقد حباني الدهرُ نعمة ان أسمّي للمرة الاولىتلك الوردة الصامتة...أيتها الوردة...غادري ماضيك السحيقوالتمعي في هذه القصيدةذهباً أو دماً أو عاجاً أو عتمةكما التمعتْ بين يدي الشاعروردة لا مرئية.
توابل
وردة الملاك
15-07-2009