مفارقة السيادة والتدخل الإنساني!
لعل القرار 688 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 5 أبريل 1991، الخاص بدعوة العراق إلى كفالة احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين، كان إيذاناً ببدء مرحلة جديدة من مراحل التطور في الفقه الدولي بشأن قاعدة حقوق الإنسان، باعتبارها قاعدة آمرة ملزمة، وعلى أساسها صيغت فكرة التدخل الإنساني أو التدخل لأغراض إنسانية، بغض النظر عن ازدواجية المعايير والتطبيقات الانتقائية والتوظيف السياسي، خصوصاً العلاقة بين مبدأ التدخل الإنساني، والإصرار على استمرار الحصار الدولي ونظام العقوبات، الذي دفع الشعب العراقي ثمنه باهظاً، باعتباره إجراءً لا إنسانياً يتسم بالقسوة والوحشية وعدم الشعور بالمسؤولية، خصوصاً استمراره فترة طويلة بما يعتبر عدواناً سافراً وصارخاً يستحق المساءلة الدولية!
وقد أطلق الباحث تسمية القرار اليتيم على القرار 688 منذ صدوره، فهو الوحيد الذي لم يصدر ضمن الفصل السابع الخاص بالعقوبات، بينما صدرت كل القرارات الدولية المجحفة بفرض نظام العقوبات على العـراق ضمـن الفصـل السابع، ثم عاد وأسماه القرار اليتيم والتائه، لأنه لم يسأل عنه أحد، فلا الولايات المتحدة التي كانت تريد إرغام العراق على تنفيذ كل قرارات مجلس الأمن، تصر على تنفيذ هذا القرار، ولا مجلس الأمن الذي أصدره، يتذكره، ولا الحكومة العراقية التي وافقت على قرارات دولية مذلّة ومجحفة تقبل بتطبيق هذا القرار، ليتمّ الانتقال سلمياً الى مرحلة التغيير المنشودة باحترام حقوق الإنسان، ولا المعارضة العراقية حينها أعملت الجهد والفكر لإقناع المجتمع الدولي، لتنفيذ هذا القرار وانتهاج السبيل السلمي للتغيير بدلاً من الحرب والطريق العسكري المحفوف بالمخاطر والآلام، ناهيكم عن تبعاته المستقبلية الخطيرة على وحدة العراق وسيادته واستقلاله.وهكذا ظلّ هذا القرار منسيّاً، إضافة إلى كونه يتيماً وتائهاً حتى تم شن الحرب على العراق واحتلاله خارج أي تفويض دولي، لاسيما من الأمم المتحدة رغم مواقفها المعروفة والممالئة لمصلحة الولايات المتحدة، خصوصاً في موضوع فرق التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل.وهنا يثور سؤال طالما يواجه العاملين في هذا الميدان، هل تتعارض السيادة مع مبدأ التدخل الإنساني لهدف فرض احترام حقوق الإنسان، الذي اعتبر مسؤولية دولية للمجتمع الدولي؟ وكيف السبيل للمواءمة بين السيادة الوطنية والمصلحة القومية، والالتزام بمواثيق حقوق الإنسان والقانون الدولي؟إن نقطة التوازن بين السيادة الوطنية وحقوق الإنسان، تنطلق من التطور الذي حصل في ميدان القانون الدولي، خصوصاً المدى الذي يستطيع فرض التدخل على الدول الأعضاء وفقاً للميثاق وفي إطار القواعد الآمرة.إن صدور عدد من الاتفاقيات الدولية بخصوص حقوق الإنسان جعلها لا تنحصر بولاية قضائية داخلية فحسب، بل وضعها بمصاف القضايا التي تعتبر من صميم وجوهر القانون الدولي، فالدول بتوقيعها وانضمامها إلى المعاهدات والاتفاقيات الدولية، تكون قد سلّمت بجزء من سيادتها الى المجتمع الدولي، وسمحت «بتدخله» لمراقبة سجلها في ميدان حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.واستناداً إلى ذلك لم تعد السيادة «فكرة مطلقة» سواء من الناحية النظرية أو من الناحية العملية، فهي ليست ممكنة ولم تعد واقعية كما يذهب البعض، بل ثمة قيود دولية عليها، وذلك بموافقة الدول التي انضمت إلى المواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية التي حدّت سيادتها.إن هذا التطور الفعلي بغض النظر عن أبعاده الآنية والمستقبلية، فإنه ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في ما يتعلق بتشكيل وعمل ونشاط منظمات المجتمع المدني، بما فيها جمعيات حقوق الإنسان وحركتها، في مواجهة الضغوط والتحديات التي تحيق بها من مختلف الاتجاهات. ومن الكوموتراجيديا أن بعض الدول، التي تتعكز على فكرة السيادة المطلقة ومبدأ عدم التدخل، باعتبارهما قواعد قانونية دولية والتزامات على عاتق المجتمع الدولي، فإنها لا ترغب بل تعارض بشدة مناقشة قضايا حقوق الإنسان وتعهداتها والتزاماتها الدولية بهذا الخصوص، تلك التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة حين أكد في مادته الأولى التي تتعلق بالأهداف على «الايمان بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره»، مثلما أكد على حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً... بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين وبلا تفريق بين النساء والرجال».وبناءً على ما تقدم، فإن اصدار قوانين أو تشريعات وطنية، لابد أن يأخذ بعين الاعتبار التكيف والانسجام مع التشريعات الدولية، إذ أن وضع عقبات أو عراقيل أمام انطلاق منظمات حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدني بذرائع ومبررات مختلفة، يتعارض مع المعايير الدولية بشأن تأسيس الجمعيات، وكذا الحال بالالتزام الضروري بخصوص مواءمة التشريعات الوطنية مع التعهدات الدولية.ولهذا، فإن محاولات إخضاع منظمات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان لرقابة مشددة من جانب أجهزة الدولة أو التدخل بشؤونها الداخلية بحجة تنظيم عملها وتقنينه، إنمّا يتعارض مع الالتزامات الدولية، التي تعهدت الحكومات بالأخذ بها عندما انضمت إلى المعاهدات والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.وبهذه المناسبة، يمكن القول إن الحكومات العراقية السابقة على مدى نحو 35 عاماً وما قبلها، اعتبرت أي كلام عن حقوق الإنسان في العراق، أنما هو من صنع الأجنبي ومؤامرة كبرى وتدخل في الشؤون الداخلية ومساس بالسيادة وخرق للقانون الدولي ولميثاق الأمم المتحدة، متناسية أن قاعدة حقوق الإنسان أصبحت قاعدة دولية آمرة، خصوصاً منذ مؤتمر هلسنكي عام 1975 حول الأمن والتعاون الأوروبي، حين اعتبرها قاعدة مستقلة من قواعد القانون الدولي، لا يمكن التذرع بالسلطان الداخلي ومبادئ السيادة، لكي يتم تبرير خرقها أو انتهاكها.أما حكومات ما بعد الاحتلال فهي تغسل يديها عن كل الارتكابات التي حصلت في العراق والتي أدت إلى مقتل عشرات، بل مئات الآلاف من العراقيين، سواء على يد قوات الاحتلال أو من قبلها، وتنسب كل تلك الأعمال إلى تنظيم «القاعدة» الإرهابي.ورغم التطور الكبير الذي حصل في ميدان التشريع سواء في قانون إدارة الدولة العراقية أو الدستور العراقي الدائم (رغم احتوائهما على ألغام وعقد خطيرة وكثيرة)، أو في غيره من القوانين بشأن حق تأسيس الجمعيات ودور المجتمع المدني، فإن قوات الاحتلال والقوات الحكومية تجاوزت في الكثير من المرّات على هذه النصوص الدستورية، وعبثت عن سبق إصرار بالعديد من منظمات المجتمع المدني، وحلّت بعض هيئاتها الإدارية أو تدخلت لمصلحة فريق ضد آخر، كما حصل في نقابات واتحادات الصحافيين والحقوقيين والمحامين والعمال، وغيرها إضافة إلى عدم احترام حرمة هذه المنظمات، التي كانت تقوم بتفتيشها وتخضع إداراتها للمساءلات والاستجوابات وتعتدي على مقراتها، وبغض النظر عمّا إذا كان هناك ملاحظات أو التباسات قانونية حول عمل هذه المنظمات، فإن احترام إرادة المنتسبين وإجراء انتخابات دورية شفافة كفيلان برد الاعتبار إلى مؤسسات المجتمع المدني العراقي وبناء تقاليد ديمقراطية في أوساطها، وهي ما تحتاج إليه أكثر من أي شيء آخر.* باحث ومفكّر عربي