اللامتناهي في عطائه

نشر في 22-03-2010
آخر تحديث 22-03-2010 | 00:00
 فوزية شويش السالم كل طريق محكوم في نهايته... كل طريق لابد أن ينتهي بنهايته... وكل طريق له أول له آخر، ما عدا طريقا واحدا ممتدا إلى أبديته، ومحكوما بالمزمن وبالمؤبد، المؤبد الذي متى عُبر لا يود المرء الفكاك أو التحول عنه، المؤبد الذي لا يوجد أسمى ولا أنبل ولا أعظم منه.

وكل الطرق تقود إلى غايتها وإلى أهدافها ومرادها الذي هو فاتحتها بهذا الطريق، فطريق الدراسة ينتهي بالعمل، وطريق العمل ينتهي بالتقاعد، وطريق الحب ينتهي بالخيانة، وطريق الزواج يقود إلى تكوين أسرة، وطريق الطموح يقود إلى النجاح، وطريق النجاح ينتهي بالفشل، والطريق الصالح يقود إلى الخير، وطريق الشر يقود إلى الدمار، وحتى طريق الحياة ينتهي بالموت، عدا طريق واحد موصول بالأبد، طريق واحد ممتد حبله من الميلاد حتى ما بعد الفناء، ذاك الطريق المفتوح على لا نهائيته هو طريق الأمومة، فمتى ما دُشن بأول خطوة فيه باتت هذه الخطوة محكومة بأبديتها، فالأمومة طريق معرفة بداياتها، أي بداية السير فيه، ولكن الغامض منها لا يتضح إلا

بعد المضي في المسير، بداية المشوار واضحة ومفضوضة بالولادة وباكتشافات التحول إلى الأمومة، لكن هذه الأمومة لا تمنح وضوحها وسرها من بداية الطريق، انها اكتشاف المجهول والخوض فيه إلى ما لا نهاية.

أن نصبح أمهات فهو الطريق الذي لا عودة منه ولا نهاية له، إنه المصير الأزلي، وحبل الصرة الذي لا ينقطع، وما حكاية قصه إلا أكذوبة ووهم كبير، لأنه حبل وقيد أبدي لا يُفصم ولا يُقطع بأي مقص أو بأي سكين، ولن يعرف هذا الكلام ويدركه إلا من عبر فيه وخبر تجربته.

الأمومة حتى الجنة التي تحت أقدام الأمهات لا تفيها حقها، صدقوني لا يوجد شيء في الدنيا يوازي أو يماثل أو حتى يشبه هذه العلاقة المصيرية المسماة بالأمومة، لأنها محكومة بالأبدية من خطوتها الأولى، هي مشاعر نامية لا تتوقف عند زمن أو عند حد، مشاعر مطردة وملتهبة، ومتقلبة عبر الثواني وليس فقط باليوم أو بالساعات، بالحب، بالخوف، بالقلق، بالفرح، بالرجاء،

بالتعاسة، بالسعادة، وبكل المشاعر الجياشة المتذبذب بندولها ما بين العواطف كلها. طريق الأمومة صعب ومرهون لذوات خارج عن ذاتها، فيوم ما تحل فيه الأمومة هو اليوم الذي تنسلخ فيه الذات حريتها وتتخلى عن أناها لتصبح ماركة مسجلة للأبناء فلا حياة ولا حرية مستقلة خاصة بالأم وحدها بما فيها الروح والعقل والقلب والطموح والمستقبل، كل شيء يصبح خارجا على نطاق خدمته الذاتية، ليدق ويدور ويحيا فقط من خلال أمومته. أمومة لا ينتقص رصيدها مع الأيام أو مع نضوج الأبناء واستقلالهم بحياتهم، فالأمومة لا تعرف الاستقلال ولا الانقلابات أو الانفصال... الأمومة تبقى إلى الأبد محبوسة ومختومة بأمومتها التي تزداد وتكبر يوما بعد يوم، كل شيء ينقص وينتهي، إلا الأمومة سائرة بعكس المسير، تزداد حبا ورهافة، ورقة وقلقا، وعناية وعطاء، وحنان وغفران ومسامحة كبيرة تتجاهل كل العقوق، وكل بخل العواطف وتحولاتها، وكل سخافة الأبناء وتجاوزاتهم التي تغتفر وتذوب في نهر الأمومة الهادر في رحمته، لأن الأمومة ليست إلا طريق العطاء والبذل في سخاء نادر، وطريقا للحب المتفاني الذي متى ما بدأت الخطوة الأولى فيه، فهي خطوة العطاء اللامتناهي واللامستنفد.

back to top