في تاريخ 6/4 (الثلاثاء) حضرت عرضاً سيمفونياً، عربياً غربياً، في واحدة من أضخم قاعات لندن الموسيقية، وهي رويال ألبيرت هول. تقدم العرض أوركسترا قطر الفِلْهارموني، وهي فرقة فتية تأسست عام 2008. العرض يقدم أكثر من إثارة لفضول عربي يحب الموسيقى الكلاسيكية. هناك افتتاحية شهيرة لأوبرا فاغنر «مايسْتر سِنْغر»، وهناك قائد أوركسترا أميركي شهير هو لورين مازل (قاد أوركسترا وهو في التاسعة من العمر!)، وهناك «الكونشيرتو العربي» للموسيقي اللبناني مارسيل خليفة (مواليد 1950)، وهناك «السيمفونية القطرية» للموسيقي العراقي سالم عبدالكريم (مواليد 1963). خلطة احتاج وسطها إلى أكثر من استعداد للتذوق والاستيعاب. فأنا أعرف مناعة الموسيقى العربية، بفعل هاجس الطرب والتسلّي، في مواجهة الموسيقى الغربية التي تطمع إلى مدى أبعد من هذين. وبفعل اعتماد اللحن الخيطي، في مواجهة التداخل الهارموني. ولكني أعرف أن هذا التقارب تم على صعيد عازفين منفردين، وهو تقارب بالغ الانسجام. أما على الصعيد الأوركسترالي فمعرفتي فيه محدودة.

Ad

كان مطلع «الكونشيرتو العربي» أكثر من مشجع. الجملة اللحنية الأولى تبدأ بإيقاع على آلات شرقية يُنبئ بلحن قابل على توفير أكبر قدر ممكن من التحاور والالتحام مع الهارموني الأوركسترالي. مع وتريات الفايولين ينبعث صوت يُذكر بالحركة الثانية المتهادية في سيمفونية الفنلندي سيبيليوس الثالثة. سرعان ما تعيده الآلات الشرقية إليها. أمر يبعث على الطمأنينة. ولكن مع الوقت تبدأ رغبة اللحن الشرقي، الخيطي، بالاستحواذ. رغبة الآلات الشرقية، مع لحنها، بالاستقلال. ومحاولة جعل الأوركسترا مجرد ملحق، وتابع. وكأنها تريد أن تقول للأوركسترا الغربية «دعيني أستقل، فما من سبيل للمشاركة!» لم تعد تستطيع خلق علاقة هارمونية، متآخية، أو متعارضة، معها. صارت المقاطع الراقصة التي تذكّر بموسيقى الأغاني الشرقية (الطربية، المسلية) تحتل الرقعة الأوسع. في فرصة الاستراحة سألت أكثر من عربي أعرفه عن رأيه، فكان الجواب أنهم تابعوا المقطوعات الشرقية بمتعة. صاروا ينتظرونها بتشوّق. أي أنهم اطمأنوا إلى هذه القطيعة مع الهارموني الأوركسترالي. وأن ذائقتهم ظلت سليمة من لوثته.

هذا الجانب لم يُرضني بالتأكيد. لأنه في النهاية يجعل من حضور أوركسترا معقدة تتجاوز آلاتها المئة، حضوراً لا معنى له. بالرغم من أني، في نهاية الحفلة، حصلتُ على إجابة مختلفة من سيدة صينية، أعجبها العمل هذا، من بين الأعمال، لأنه مثير بفعل جديده على ذائقتها. وهي محقة في ذلك. ولكنني لا أعتقد أنها مستعدة لسماع هذا الجديد الغريب أكثر من مرة. بعد الاستراحة سمعنا «السيمفونية القطرية». وأعتقد أن على المرء، من أجل أن يعطي العمل حقه، ألا يلتفت إلى عنوان العمل، ولا إلى الشروح التي أُمليت على الكُتيب الملحق بهدية الـ CD، والتي تجعل العمل السيمفوني تسجيلاً توثيقياً لنشأة البلد وتطوره. يكفي دولة قطر همّةً أنها كلّفت الموسيقي البارع سليم عبدالكريم تأليف عمل سيمفوني احتفاءً بفرقتها الفتية. بل يكفيها همة أن تُؤسس هذه الفرقة أصلاً، وتحيط الموسيقى الجدية برعايتها، من أجل أبنائها القادمين. سيمفونية سليم عبدالكريم تقدمت بلحن تضرعي أقرب إلى لحن أغنية عذب، منذ حركتها الأولى، مشبع بروح عاطفي عربي، واضح في انفراد الفلوت بأداء يُذكّر بالعتابا من بعيد، ثم التناوب الرائع بين الهوائيات. وبالرغم من التنبيهات التي ترد غالباً، بعد توقف مفاجئ، فإن اللحن التضرعي يعود ليتواصل، ولكن بجرأة في الأداء الغنائي، والهارموني معاً. اللحن الأساس في الحركة الأولى يكاد يعاود في الحركة الثانية ولكن بخفة متسارعة فيها رائحة إيقاع الفالس. الحركة الثالثة سريعة، خالية من الهاجس التضرعي، يحتضنها أحياناً لحن شرقي راقص. في حين يغلب على الحركة الرابعة لحن المارش المثير لليقظة والحماس. رحلة رائعة مع «السيمفونية القطرية»، ختمها عبدالكريم بغفلة غير مقصودة بالتأكيد. فهو، على غير عادة (المؤلف) وقائد الأوركسترا، لم يقدم الفرقة السيمفونية، التي أدت دورها ببراعة، للجمهور المحتفي الذي أعاده بالتصفيق مرتين. لقد نسيها وراءه وهو ينحني لهتاف الجمهور.