إسرائيل تسعى إلى إلغاء الـCIA
إن تاريخ المخابرات المركزية مليء بالنجاحات والإخفاقات معاً، واللافت أن معظم نجاحاتها كانت في منطقتنا العربية، ومن الخطأ تسمية ضباطها والعاملين فيها منذ إنشائها بأنهم «مجموعة من القديسين» الذين عملوا ويعملون على إنقاذ العالم من الأشرار، وبالتالي نشر الديمقراطية والحرية.
الحملة القائمة على الـCIA اليوم هي الأولى من نوعها في التاريخ الأميركي. إن مستقبل هذه المؤسسة الاستخبارية الضخمة يتعرض اليوم إلى الكثير من التشويه، وقد زادها تشويهاً الدور الذي أوكلته إليها إدارة الرئيس السابق بوش في غزو أفغانستان والعراق... هذا الدور الذي أخرجها عن تقاليدها وعن الأسس التي بنيت عليها منذ إنشائها في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث باتت اليوم أمام خيارين: إما إفراغها من محتواها التجسسي والإبقاء عليها كصورة معلقة على جدار البيت الأبيض من دون صلاحيات أو فاعلية، وإما العمل على إلغائها من الأساس بعد أن فقدت «عذريتها» نتيجة الفضائح المتتالية حول خرقها للدستور الأميركي الذي مازال قائماً على مبادئ حقوق الإنسان. ولعل فضيحة سجن «أبو غريب» في العراق كانت الحلقة الأولى في سلسلة تحول الـCIA من مبادئ الإنسانية إلى الاعتماد على شريعة الغاب من دون رقيب أو حسيب.إن المطالبة بإلغاء الـCIA ليس جديداً، فقد بدأت حملة المطالبة بإلغائها في الثمانينات وكان «اللوبي» الصهيوني وراء هذه الحملة لتحقيق أهداف إسرائيلية معلنة ومستترة. أما الهدف المعلن فهو الانتقام منها لرفضها إطلاق سراح أحد كبار ضباطها الجاسوس المزدوج الولاء «جوناثان بولارد» الذي أعطى المخابرات الإسرائيلية أسراراً أميركية هائلة اضطرت معها إدارة الـCIA إلى إنفاق حوالي بليون دولار لتغيير برامجها وأسلوب عملها الاستخباري، بالإضافة إلى كنز من المعلومات عن الشرق الأوسط وعن الصين وروسيا وأوروبا حيث كانت الـCIA تخبئه في حرز حريز. أما السبب المستتر فهو طموح أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في أن تأخذ مكان نظيرتها الأميركية في السيطرة على العالم التجسسي، ومازالت إسرائيل تعتبر أن الخلاص من منافسها الأميركي يعطيها المجال في أن تسرح وتمرح في كل بقعة من العالم. خلال العشرين سنة الماضية لم تتمكن إسرائيل من تحقيق برنامجها الخفي، لكنها أبقت على برنامجها الطموح بانتظار الوقت المناسب. وخلال هذه الفترة كانت أصوات يهودية أميركية لها شأنها في واشنطن ترفع شعار ضرورة إلغاء الـCIA، لأن انتهاء الحرب الباردة في التسعينيات، وزوال الاتحاد السوفييتي، قد أفقدها مبرر وجودها. أما اليوم، وفي ظل الأضواء الباهرة المسلطة على إخفاقات وفضائح الـCIA، فإن اللوبي الصهيوني وجدها فرصة متاحة لإطلاق «رصاصة الرحمة» على هذا الجهاز الذي ساهم إلى حد بعيد في جعل الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم. يساعد إسرائيل في ذلك استمرار الروح التنافسية بين الـCIA وبين بقية الأجهزة الاستخبارية الأميركية التي تتمنى هي الأخرى زوال الـCIA من الوجود لأسباب لا علاقة لها بالبرنامج الإسرائيلي الطموح. ولإنعاش الذاكرة فإن «بولارد» مازال سجيناً بالرغم من محاولات كلنتون في عهده، ومن ثم بوش في ولاية الثماني سنوات في البيت الأبيض من إصدار عفو عنه. وكانت محاولة كلنتون لإطلاق سراح بولارد هي الأقوى عندما عقد صفقة سرية مع نتنياهو مقابل تنازلات إسرائيلية في ملف الشرق الأوسط تقضي بإخراج بولارد من السجن الأميركي ووضعه على أول طائرة متوجهة إلى تل أبيب. وكان كلنتون واثقاً من تنفيذ التزامه الشفهي الذي أعطاه لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، لكن عندما طرح الموضوع في إحدى جلسات مجلس الأمن القومي، اعترض مدير الـCIA في ذلك الوقت جورج تينت بشدة وبلهجة حاسمة، وسانده في ذلك معظم الضباط الكبار في جهازه، مهددين بتقديم استقالات جماعية. ثم أطلق تينت الموضوع نحو دائرة الضوء الإعلامي لإفساد الصفقة. تينت قال في حينه في جلسة سرية عقدها مجلس الأمن القومي برئاسة كلنتون ما معناه: إن إطلاق سراح بولارد هو أول معول يُدَق في هدم جهازه، لأنه يشكل سابقة خطيرة وهدامة ويقضي على التقاليد المتبقية منذ إنشاء الـCIA إلى اليوم، وقد نقلت بعض الصحف الأميركية في حينه قولاً لم ينفه تينت: إن خروج بولارد من السجن لن يتم إلا على جثتي وجثث رفاقي كبار ضباط الجهاز. واضطر كلنتون إلى الاعتذار لنتنياهو عن عدم التزامه بتنفيذ الوعد بإطلاق سراح بولارد، ووضعت إسرائيل يدها على جرحها دون أن تنساه بانتظار الفرصة المناسبة.
إن تاريخ المخابرات المركزية مليء بالنجاحات والإخفاقات معاً. واللافت أن معظم نجاحاتها كانت في منطقتنا العربية، ومن الخطأ تسمية ضباطها والعاملين فيها منذ إنشائها بأنهم «مجموعة من القديسين» الذين عملوا ويعملون على إنقاذ العالم من الأشرار، وبالتالي نشر الديمقراطية والحرية، وقد وصفتهم جريدة «لوس أنجليس تايمز» في عددها الصادر في 22 تموز/يوليو الماضي بأنهم «يحملون إجازة رسمية للقتل». ثم عددت الجريدة بعض العمليات الفاشلة، غير أن فشل هذه العمليات لا يلغي صبغة الجريمة غير المشروعة حتى لو كانت تحمل رخصة رسمية من حكومة الولايات المتحدة، ففي العام 1960 من القرن الماضي، وضعت خطة لقتل الزعيم الوطني الكونغولي باتريس لومومبا بواسطة التسلل إلى غرفة نومه ووضع سمّ قاتل في فرشاة أسنانه. لم تنجح العملية، لكن لومومبا قتل على يد خصمه بتشجيع من المخابرات المركزية وكانت النتيجة وقوع حرب أهلية دامية أدت إلى تقسيم البلاد وإلى تدخل قوات الأمم المتحدة. وفي السنة ذاتها أرسلت الـCIA «هدية قاتلة» إلى الرئيس العراقي الأسبق عبدالكريم القاسم. هذه الهدية كانت عبارة عن منديل مسموم كان عبدالكريم قاسم شغوف بحمل مثله ليمسح به عرقه من حرّ بغداد الحارق، وفشلت الخطة لأن قاسم نسي استخدام الهدية الأميركية المسمومة واستعاض عنها بمناديل صُنِعتْ في العراق.ثم حاولت الـCIA جاهدة قتل الرئيس الكوبي فيدل كاسترو أكثر من مرة، وكان نصيب هذه المحاولات الفشل التامّ، فقد استخدمت المافيا لتسميم طعامه، ثم زرعت نوعاً من الجراثيم في لباس الغطس، وكان كاسترو يهوى، إلى جانب أشياء عديدة، الغطس إلى عمق البحر. ثم حاولت وضع متفجرات في السيكار الذي كان يدخنه باستمرار. وكانت المحاولة الأخيرة قلم مفخخ بالمتفجرات القوية ينفجر عند الملامسة، ولم تنجح كل هذه المحاولات بدليل أن كاسترو مازال على قيد الحياة. كل هذه المحاولات وغيرها خير دليل على أن الـCIA مُنِحتْ رخصة شرعية للقتل. وهذه الرخصة مازالت سارية المفعول إلى يومنا هذا.في عام 1991، وخلال حرب الخليج لطرد صدام من الكويت قال روبرت غيتس، مدير الـCIA السابق ووزير الدفاع الحالي، إنه «يأمل في أن يُقتل صدام في مخبئه». وفي السنة ذاتها، وقّع تشيني على وثيقة رسمية مع رئيس الأركان السابق كولين باول، بإرسال قنبلة ذكية زنتها (2000) باوند من المتفجرات لاستخدامها ضد مخبأ صدام عندما يتحدد هذا المخبأ. وقد كتب تشيني ملاحظة في آخر الوثيقة تقول: «إلى صدام مع المحبة».