الإبداع الرحباني يعتمد على البساطة المولودة من رحم العمق!

Ad

هذه البساطة القادرة على أن تؤلف بين ذائقتين وفهمين قد يبدوان متضادين أو هما كذلك فعلا. وهذه البساطة ليست قصرا على البناء «الكلامي» للأغنية، وإنما تتعدّاه إلى البناء الموسيقي لها، إلا أنني لست أهلا للوقوف تحت مطر الموسيقى الرحبانية بلا مظلة!

لذا سأغامر بالوقوف تحت مطر الكلام فيها!

«قديش كان فيه ناس»... لفيروز عالم من الضياء يسحر... إنها أغنية أنموذج لإبداع متميز... يجسّد بامتياز المدرسة الرحبانية في الغناء، التي من صفاتها:

1- القصة المصورة: الأغنية الرحبانية بعكس معظم الأغاني العربية تجسد المعاني الكبيرة في الوجود كالحب والصبر والإيمان في قصص ومشاهد حياتية وصور بسيطة يمكن الإحساس بدفء أجساد شخوصها، وهواء أنفاسهم، وأسمائهم، وبرغم بساطة القصة في إطارها العام، فإن نسيجها ثري بالإبداع والفن، هذه البساطة التي تتجدّل من ضفائر الدهشة، فيصبح العمل الإبداعي أكثر تعقيدا وجمالا عندما تبحر في أعماقه، في الوقت الذي يشبعك بالجمال لو افترشت فقط شواطئه، واكتفيت بجمال كل ما تقع عليه حواسك الخمس.

عندها ستدرك أن الأغنية عند الرحابنة فهم ورؤية لماهية الفن!

وما أغنية «شادي» إلا أحد الأمثلة على توظيف الرحابنة للقصة المصورة في الأغنية لنقل الرسالة الفكرية إليها، فالرسالة الأساسية لأغنية «شادي» تتضمن الموقف من الحرب، من خلال تناولها للحرب الأهلية اللبنانية، فالأغنية تتحدث عن علاقة رائعة وجميلة بين شادي وأنثى غاية في النقاء والبراءة والحب، افترقا لمدة عشرين عاما بسبب الحرب المجنونة، ببساطة هذه القصة المصورة تترجم رسالة الأغنية.

ودائما ما تتضمن القصة المصورة في أغنية الرحابنة على تفاصيل، تعطي للقصة نبضا ودفئا وواقعية، لتضفي حميمية تتشكل بين القصة ومتلقيها، إلا أن «توظيف» القصة المصورة في الأغنية الرحبانية لا يفرض على المتلقي فقط القصة بإطارها العام، ولكن أيضا يفرض طريقة تجسيدها، والسيناريو الخاص بها، لتتحدد ملامح هذه القصة صورة ذهنية واضحة لدى المتلقي، لا تترك مجالا كبيرا لابتكاره، ولا حيزا واسعا لاجتهاده في التخيّل.

الجميل في هذه الدكتاتورية إذا كان في الدكتاتورية ثمة جمال، أن الصفقة بالنسبة للمتلقي في الأغلب رابحة.

فالأغنية الرحبانية تضيف فعلا لذائقة متعاطيها قيمة فنية.

والرحابنة لفرط ثقتهم بجمال خيالهم لا «يصادرون» خيال المتلقي فقط عن طريق القصة المصوّرة، بل يذهبون أبعد من ذلك ويستخدمون الكلمة المصورة، إمعانا في مصادرة خيال المتلقي، وإحلال خيال المبدع كما رسمه في الأغنية بدلا عنه،

وكالعادة... تكون صفقة رابحة للمتلقي.

2- الإبداع الرحباني يعتمد على البساطة المولودة من رحم العمق!

هذه البساطة القادرة على أن تؤلف بين ذائقتين وفهمين قد يبدوان متضادين أو هما كذلك فعلا. وهذه البساطة ليست قصرا على البناء «الكلامي» للأغنية، وإنما تتعدّاه إلى البناء الموسيقي لها، إلا أنني لست أهلا للوقوف تحت مطر الموسيقى الرحبانية بلا مظلة!

لذا سأغامر بالوقوف تحت مطر الكلام فيها!

البساطة التي تخدم العمق ولا تكون ضدا له في أي وقت،

البساطة التي تلبس رداء الجمال،

البساطة التي لا تعني الدرك، والخوض في الطين،

تلك التي تشبه رؤية فراشة ملونة في حقل،

أو تشبه الحب لأصابع الحبيبة

أو تشبه الحلم بغد أجمل،

فهذه الأشياء بالرغم من بساطة وجودها فإن دلالاتها في الوجود الأكبر رائع وفلسفي.

وهذه الرؤية للبساطة هي التي تشكل الأبداع الرحباني،

بساطة نجدها مثلا في أغاني حنا السكران تلك الأغاني التي تستدعي الحزن في قلب بنت الجيران.

ونجد تلك البساطة أيضا في المقعدين قرب الموقد، اللذين ملئا بعاشقين آخرين بدل اللذين سبقاهما!

ونجدها في العديد العديد من الأغاني الرحبانية،

بساطة مربكة وذكية وماكرة وجميلة.

«قديش كان فيه ناس

ع المفرق تنطر ناس

ويحملوا شمسية

وأنا بأيام الصحو

ما حدا نطرني»

خنجر من الوجع المضيء يعبر أحساسك لا ليقتله ولكن ليوقظه،

دلالة الصورة موجعة حد البشاعة، ولكن رسم هذه الدلالة والألوان التي استخدمتها فرشاة الإبداع رائعة الجمال.

إن المعنى العظيم التي حملته الأغنية هو:

«لا شيء في الوجود مهمل إذا آمن بأهمية الصورة كاملة لا بأهميته هو الذاتية بمعزل عنها».

هذا المعنى الذي يؤكد التكامل مع الصورة الكلية للجمال لتصبح جميلا،

والتكامل مع الصورة الكلية للحب لتغدو محبوبا،

ومع الصورة الكلية للوفاء لتجد من يمنحك إياه،

عند الإنصهار في الصورة تصبح كل الأجزاء المكونة لهذه الصورة مهما صغر حجمها مهمة، وتتساوى قيمة أي جزء منها مع قيمة الجزء الآخر المكمل له.

بل ان الأشياء التي قد تُهمل وقد لا تخطر على البال في معظم الوقت، تصبح ذات قيمة عظيمة عندما تتحد مع بقية الأجزاء لتشكّل في النهاية معها الصورة الجمالية الكبرى.

إن التوحّد مع بقية عناصر الصورة يلغي الوحدة.

ولتجسيد هذه المعنى العظيم للأغنية تم توظيف قصة لشخص يمتلئ إحساسا بالوحدة، حد الإحساس بأن لا أحد على الإطلاق ينتظره، في الوقت الذي يوجد كثير من الناس تنتظر أحبابها، محتملة عناء الانتظار تحت أسقف مظلاتهم.

وهذا المشهد تحديدا بما تضمّن من مكونات من حب وأحباب وانتظار و»شتي» و»شمسيات»، هي الرموز الأساسية للبناء الكلامي للأغنية، ولقصتها المصورة ولفكرتها الوجودية.

أتذكر عبارة قرأتها ذات زمن بعيد مكتوبة على إحدى البطاقات التي يتهادها الأشخاص بينهم تقول هذه العبارة:

«الحب هو... معرفة أن هناك شخصا ينتظرك».

وكانت الصورة على البطاقة عبارة عن فتاة جالسة قرب الشباك، مسندة رأسها على حافته!

تجسيد واقعي وبسيط ومكثف لمعنى الحب...إلّا أنه غني بالجمال.

«وأنا بأيام الصحو

ما حدا نطرني»!

يا للوحدة تلك التي يشعرها المرء عندما يتيقن أن حياته خالية من حبيب يعرف يقينا أنه ينتظره.

الشاعر أحمد السعد قال:

لذة الدنيا حياتي

لما تسهر ...كل ليلة

وتحت حر الشمس تمشي

في المشاوير الطويله

وتنتظرني

وإنت داري

إن ساعة شوفتك لي..

في حياتك

مستحيله!

هناك من ينتظرك مهما تكلف ذلك... تلك هي صورة مكثفة ودافئة لمعنى الحب!

من لا يملك هذا الحب... وحيد،

يشبه ذلك الوحيد في أغنية «قديش كان فيه ناس» والذي بقي أمدا طويلا مهملا.

«صار لي شي ميّة سنه

مشلوح بهالدكان

ضجرت مني الحيطان

ومستحيّه تقول!»

مهملٌ للدرجة التي لا تشعر به حتى حبيبته ولا تنتبه لوجوده:

«أنا عيني ع الحلا

والحلا ع الطرقات

غنّيله غنيات

وهو فباله مشغول»

وحيد للحد الذي يضطّره لاختراع «أناس» لا وجود لهم تهتم لأمره،

يرسل لهم أخباره ليطمئنوا عليه:

«صار لي شي ميّة سنه

عم ألّف عناوين

مش معروفه لمين

وديلهن أخبار»

هذا باختصار محور قصة أغنية «قديش كان فيه ناس» والتجسيد المصور لها.

إلا أن تجسيد المعنى الوجودي للأغنية ورسالتها الفلسفية يتجلى

في الجزء الأخير في هذا المقطع من الأغنية:

«بكرا لا بد السما

لا تشتّيني ع الباب

شمسيات وأحباب

وياخذوني شي نهار

واللي تذكر كل الناس

فالآخر ذكرني»!

نعود الى بداية الأغنية، حيث أناس تنتظر أحبابها حاملة مظلات

تحميها من المطر، هذه المظلات ليست مجرد أكسسوار فائض في الصورة، إنها مهمة بقدر أهمية الحبيب المُنتظَر (بضم الميم وفتح الظاء) والحبيب المنتظِر (بكسر الظاء)، فلولا هذه المظلة قد لا يحتمل الحبيب المنتظِر عناء الانتظار طويلا تحت المطر، فالمظلة هنا عنصر أساسي بقدر العناصر الأخرى لإكمال الصورة التي تقول إن الحب هو معرفة أن هناك من ينتظرك!

«بكره لابد السما

تشتّيني ع الباب

شمسيات وأحباب»

هذا الوحيد في الأغنية على يقين أنه سينزل من السماء يوما مطر على شكل مظلة أو على شكل حبيب ليصبح جزءا مهما من الذاكرة التي ستشكل صورة الحب.

إيمان عظيم بأن المظلة والحبيب ما هما إلا مكونان للصورة، ولا يمكن لأحدهما أن يكون هو الصورة.

هنا تساوت أهمية المظلة مع أهمية الحبيب لإيصال الفكرة.

تلك الفكرة التي تجسد المعنى الأعظم للأغنية والذي يقول:

«لا شيء في الوجود مهمل إذا آمن بأهمية الصورة كاملة لا بأهميته هو الذاتية بمعزل عنها».

واللي تذكر كل الناس

فالآخر...

ذكرني...

حقا... إن البناء الكلامي في الأغنية الرحبانية عالم مدهش وساحر ويملأ الذائقة بالربيع.