حياة مرهونة بالخفة

نشر في 22-06-2009
آخر تحديث 22-06-2009 | 00:00
 فوزية شويش السالم لا أدري بأي طاقة خارقة حملتها، مجموعة من الأسلاك الرفيعة والسميكة اخترقتني وطارت بي في فضاء من الخفّة المترفة بالضوء الحالم الشبيه بنور القمر البارد، وبتّ بخفة هذه المخلوقات الخفيفة التي تدور وتمرح حولي في هواء عابر بلطف، يحركها بنفخة هفهافة ... مجرد دوران أو طيران أو هزهزة تنفخها بخيلات لا تكترث بلحظتها المجمدة في زمن مرق وقام بمحوها بعشرات السنين، وتركها تعيش نزقها في هذا الخلود المنعكس في ظلالها الطائرة بفضاءات متحركة بأوهام ما يبثه وجودها الأزلي المحبوس في أسلاك تحرك حضورها الدائم في ظلها المرتسم خلفها، في حياة ضاجة على جدران متحف بمبيدو سنتر القاعة رقم 1.

وهذا هو سحر الإبداع، وسر خلوده الآسر حين يستطيع الفنان أن يضع المتلقي في الحالة التي يريدها منه، حين تسري في الرائي لأعماله المشاعر والأحاسيس التي تبثها أعماله المجمدة والحية رغم مرور عشرات السنين... وهذا ما شعرت به في معرض الفنان العبقري ألكسندر كالدر، الزائر المحتفى به في متحف بمبيدو سنتر هذا العام.

وفي هذا المعرض الكامل لمعظم أعماله السلكية وأفلامه وكتبه، وأوراقه وسيرة حياته، ألكسندر كالدر 1976–1898 هو من أعظم فناني القرن العشرين، ابن نحات وجده نحات أيضا، بدأ بأعماله منذ الطفولة، وبرزت موهبته حين ذهب إلى باريس بين عام 1926–1931 وأسس سركه المكون من مئات القطع الصغيرة المُعاد تصنيعها من المواد البسيطة، والذي خلق منها منيتور لسيرك فني مذهل كان المختبر الأول لأعماله التالية... هذا السيرك منحوت من مواد غاية في البساطة، مواد مثل الأسلاك بكل أنواعها، والأخشاب، والفلين، الجلد ومواد مصنعة باليد. وهذه هي المرة الأولى التي يُعاد عرضه في باريس من بعد آخر عرض له في عام 1970.

من هذا السيرك انطلق إلى عالم نحت البورتريه، وبهذه الأسلاك الرقيقة نحت عشرات البورتريهات لأسماء مشهورة من نجوم الفن والمجتمع والسياسة، وكان نجاحه خارجا عن إطار النحت التقليدي، والذي استطاع فيه أن ينقل الحركة بشكلها الحي والكامل في هذه الأسلاك وظلها المتحرك خلفها على الحائط.

وجمال نحته يتلخص في قدرته على نحت الحركة في قوتها الديناميكية المحاطة ضمن هذه الأسلاك، وهذا الشكل المتوازن والثابت في الفراغ المرئي وغبر المرئي معا، بحيث إنها تعيد خلق حضورها مرتين، حياتها المنحوتة في الأسلاك وحياتها الأخرى المنعكسة كخيالات خلفها تتراقص على الجدار.

بصراحة هذا النحت مختلف في تأثيره عن أي نحت آخر شاهدته، لأنه لا ينتمي إلى الثبات والجمود أو إلى حالة التجمد المتمثلة في المواد الثقيلة مثل الرخام والحجر والمعادن والخشب، هذا نحت من روح خاصة تميل إلى الخفة والطيران لدرجة يشعر بها المشاهد مرتدة عليه ومنعكسة على روحه وبدنه وحواسه كلها، بهذه الخفة المحلقة في فضاء تأسر الرائي وتدعه في حالة من الفرح ربما، أو من الشجن، أو من كل هذه المشاعر ممزوجة معا، وهذا هو سحر الفن العظيم. 

back to top