لا تطيق أي سلطة أن تروى سيرتها، سيرة البدايات بخاصة. لا لأن هذه مجبولة على التعثر ومثيرة للسخرية المخلة بالهيبة فقط، إنما لأنها تذكر كذلك بالأصل العادي، غير «النبيل» أو «المقدس» أو «الثوري» أو «العبقري» أو «البطولي».. للسلطة ونظامها ومبادئها، وقد تكشف جوانب مبتذلة أو وضيعة من سيرتها. ومن هذا الباب فإن السلطة السياسية، المطلقة أو «الشمولية» منها بخاصة، أو الطغيان المحدث، عدوة للذاكرة، ترفض أكثر من غيرها أن تتذكر أو تُذكّر. ولعلها من هذا الباب تحرص على التخلص من الطبقة السياسية التي زامنت ولادة حكمها، بل يدشن الزعيم الأقوى، وليكن اسمه ستالين، عملية تصفية لأنداده، ليس لأنهم يعرفون من هو وما قيمته ومن أي طين هو مصنوع، ولكن لأن مجرد وجودهم تذكير بعاديته، وبأنه «عينة» من صنف أوسع. ويتخلص صدام حسين من زملائه، بخاصة أولئك الذين تعاملوا معه باستخفاف ذات يوم، أو حتى بندية. ويقتل غيرهم خصومه صبرا، أي بسجنهم حتى الموت، فالذاكرة تؤكد أنه كان للطاغية أنداد، وأنه لم يكن الأول في كل شيء طوال الوقت. إنه الأول اليوم بفعل عملية «تأويل»، لم تخل من عنف ووحشية ودم، تخلص بها من رفاقه ومنافسيه.
الذاكرة خطيرة أيضا لأنها تعرض الطابع المتلجلج والمتردد والتجريبي لتبلور النظام والزعامة والسلطة، وتظهر أنه لم يولد كاملا على نحو ما يفضل القائمون عليها تصوير الأمر. تذكر البدايات مزعج بخاصة لأنه صورة مقلوبة عن النهاية. ما له بداية ينتهي، فجأة أو بالتدريج. قد يبدأ الطغيان بـ«انفجار عظيم»، لكنه ينتهي بـ«نواح خافت» على نحو ما ينتهي عالم ت. س. إليوت في «الأرض اليباب».***السلطة المستبدة تعادي الأرشيف، تحذف من سجلات تاريخها ما لا يروقها أو يناسب موقفها الآني، كانت مهمة وينستون سميث في رواية «1984» لجورج أورويل تنقيح الماضي لجعله موافقا للحاضر. فأعداء اليوم كانوا أعداءنا دوما، وأصدقاء اليوم هم الأصدقاء في كل آن. السجل مطواع، قابل لإعادة تشكيل غير نهائية. وهو مع هذا غير قابل للكشف. لا يتاح السجل للعموم بعد جيل ولا بعد أجيال. إذ لا بد له من أن يحتفظ بآثار التغير وعلامات الزمن. من شأن إتاحته أن تظهر عادية السلطة، والسلطة المطلقة عدوة العادية قدر ما هي عدوة الذاكرة والأرشيف والتغير والتاريخ. وعبر إعادة تشكيل السجل تتوسع السلطة المطلقة إلى الماضي وتسيطر عليه، ومن هذا الباب أيضا الذاكرة الحية عدو. فهي سجل يمتنع على إعادة التشكيل. ولعل هذا هو مغزى الحكاية التي تتكلم عن سلطان أمر بقتل كل المسنين بين رعاياه. هؤلاء شهود على عادية السلطان وابتذاله، وعلى الطابع العارض لحكمه. قبله كان غيره. وما دام له قبل فالأرجح أن يكون له بعد. ليس خالدا إذن، وسلطانه ليس حتميا. والوظيفة المختص بطرد العادية، وبحذف البدايات والتركيب والنقص و«التأويل»، هي الرقابة. السلطة المطلقة رقابة مستمرة، عملية حذف ودمج وتعديل، وإعادة بناء مستمرة لصورة النظام، بغرض إثبات أنه كان مطابقا لذاته دوما؛ ووظيفة الرقابة قمع التذكر الذي هو قوة كاسرة للمطابقة الذاتية. يؤكد التذكر أن للسلطة تاريخا، لم تكن دوما ما هي عليه اليوم (وتاليا قد تتغير يوما أو تزول)، فهو يحبط مشروعها لتأبيد الحاضر ومنع انصرام الزمن. وهو لا يثبت أنها ليست هي: تتحول وتتبدل، أو تكون وتفسد؛ بل يثبت كذلك أن غيرها هي: ثمة عقائد غير عقيدتها حطمت، وقيادات منافسة قتلت أو اغتيلت، و«قداسات» مثل قداستها دُنِّست، وتمردات عليها سحقت. إذا كانت الذاكرة عدو السلطة المطلقة، فإن النسيان حليفها الموثوق. تعوّل على أن ينسى الناس. ينسون أن الحكام مثلهم وأنهم هم مثل الحكام. والنسيان هو نسيان البدايات، وتاليا توهم أن أصل الحاضر هو الحاضر، وهو ما يناسب السلطة المطلقة تماما، سلطة أي فكرة أو مؤسسة أو عقيدة أو «شخصية» ترفض المساءلة. تكره النظم الاستبدادية أن يحتفظ ضحاياها بذاكرتهم، أن تكون لهم سير وسرديات مختلفة ومعرفة بالبدايات. وهي تحرص كل الحرص على مصادرة أي وثائق مستقلة قد تكون أساسا لسجل بديل. لا ينبغي أن تتولد سرديات مستقلة. فإن ولدت مع ذلك، فإما تقمع في مهدها، وإما يشكك في صدقيتها وتسخف، وإما تتجاهل، وإما تحتوى. ومنع تكون خطابات مستقلة هو وظيفة إضافية للرقابة تساندها فيها الأجهزة المختصة بالقمع. القمع موجه جوهريا ضد فكرة أن ثمة بديلا، أو كل ما يوحي بأن الواقع القائم ليس الممكن الوحيد. والسلطة التي تعادي انبثاق التذكر المستقل وكلامه، قوية الذاكرة بالمقابل حيال خصومها وأعدائها. تحتفظ بأرشيفات أو «أضابير» أو «ملفات» مفصلة ما استطاعت لكل منهم، من مروا بسجونها وأجهزة تحقيقها بخاصة. يحصل أن تسمى هذه «قيودا». وهي بمنزلة نسخة من كل شخص، مخزونة في «عالم آخر»، عالم الظلمات والسر المحمي بالأسوار والقوة الوحشية من أجل ألا يختلط بالعالم العادي، عالم لا يجوز بحال أن تتسرب أضابيره و«قيوده» إلى السجلات المعترف بها في عالم الجهر. إنها قيود بالفعل، كأنما نصف الشخص يبقى سجينا دوما، كأنما نصفه فوق الأرض ونصفه تحتها. والاحتفاظ على هذا النحو بقيود أو سجلات للخصوم والأعداء هو فعل تقييد رمزي، يوسع مساحة تصرف السلطة ويضمن لها أمنا نسبيا من جهة هؤلاء المقيدين. بالمقابل، إن كشف السجلات وإظهار القيود للعلن فعل محرر، يستعيد بموجبه كل «مقيد» تكامله وسيادته على نفسه وسلامته واحتكاره الشخصي لذاكرته. فعل كاسر لهذا الضرب من النسيان المصنوع بالقوة والمسيج بالظلام والمحروس بالخوف. من هذا الباب فإن سلطة مطلقة لا تتغير فعلا إن لم تكشف سجلاتها وقيودها وأرشيفها كاملا وتعرض علنا للجميع. لا تتغير إلا بقدر ما ينطلق فعل التذكر ويتحرر من إساره، وتنال السرديات المقموعة الاعتراف العام. بهذا ربما يتكامل كل الناس وكل واحد منهم على سطح الأرض، متحركين، متحررين من قيودهم، طلقاء.* كاتب سوري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
في شأن الذاكرة والسلطة والرقابة
13-08-2009