كانت للزعيم الليبي أسباب كثيرة للاحتفال في الآونة الأخيرة، فمنذ وفاة رئيس الغابون، عمر بونغو، في يونيو المنصرم، حمل معمر القذافي لقب الحاكم ذو الفترة الأطول لحكم غير موروث في العالم. ففي سبتمبر، شهد الذكرى الأربعين للانقلاب الذي أوصله إلى السلطة، وكبادرة ثقة، راح يحرر المعتقلين السياسيين ويدعو المنشقين المنفيين، الذين كانوا يُطاردون في السابق من قبل شرطته السرية المخيفة، للعودة إلى الوطن. كذلك لم تخرج ليبيا من عزلتها الدبلوماسية فحسب، إنما أدت زيادة في الثروات ناجمة عن ارتفاع أسعار النفط إلى تهافت رجال الأعمال الأجانب إلى العاصمة الليبية طرابلس.

Ad

فضلاً عن ذلك، قد يدعي القذافي الانتصار في الآونة الأخيرة كمحارب مقدس، فمنذ شهر، دعا إلى الجهاد ضد سويسرا لمعاقبتها على حظرها بناء مآذن جديدة بعد استفتاء أجرته هذه الأخيرة، لكن بحسب الكثير من مراقبي القذافي، جاء كلامه العدائي كإعلان فحسب عن جولة جديدة من المشاحنة الدبلوماسية المستعرة التي اندلعت في عام 2008 حين استدعت الشرطة السويسرية نجل القذافي هنيبعل، الأصعب مراساً بين أشقائه السبعة، بعد أن تقدم اثنان من خدمه بشكوى عن تعرضهما للضرب على يده في فندق جنيف الذي كان ينزل فيه.   

في النهاية، أُسقطت تلك التهم لكن الليبيين ردوا على الإهانة الواضحة باعتقال رجلي أعمال سويسريين لتخطيهما بحسب ما زُعَم فترة إقامتهما المحددة في تأشيرتي سفرهما. دفع ذلك في المقابل بالسويسريين في ديسمبر الماضي إلى منع 188 مسؤولاً ليبياً رفيع المستوى من زيارة البلاد، وبما أن سويسرا تقع ضمن منطقة شينغين في الاتحاد الأوروبي وتلتزم بالتالي بقوانين الهجرة عينها، مُنع الليبيون فعلياً من زيارة أي من البلدان الأعضاء الخمسة والعشرين (بما فيها فرنسا، وألمانيا، وإسبانيا). عندئذ حظر الليبيون المغتاظون فجأة دخول مواطني منطقة شينغين كافة الذين يبلغ عددهم نحو 400 مليون نسمة وفرضوا مقاطعة تجارية على سويسرا.

وفي نهاية الشهر المنصرم، سارع الاتحاد الأوروبي إلى إلغاء قراره بحظر السفر واعتذر عن أي إهانة بدرت منه، عندئذ أعلن وزير الخارجية الليبي عن انتصار بلاده. يمكن تفهّم ابتهاجه، لأن عدول الأوروبيين عن قرارهم شكل انتصاراً بكل معنى الكلمة للمصلحة الذاتية على المبادئ. فضلاً عن ذلك، انتُزع اعتذار مذل من الولايات المتحدة بعد أن سخر أحد الناطقين باسم وزارة الخارجية من القذافي. وفي كلتا الحالتين، كان على الليبيين التلميح فحسب إلى أنهم قد يعيدون النظر في العقود مع الشركات الأميركية أو الأوروبية أو يفسخونها. أما سويسرا، التي لم تنضم إلى الاتحاد الأوروبي، فظلّت مستبعدة، بعد أن تخلى عنها شركاؤها في منطقة شينغين، ولايزال أحد مواطنيها الذي يمثل إحدى كبرى شركات الهندسة السويسرية، ABB، محتجزاً في سجن ليبي.

يستمتع الليبيون العاديون على ما يبدو بعروض المشاكسة الوطنية هذه وقد استمتعوا بهزيمة سويسرا، لكن على غرار الكثير من انتصارات القذافي الواضحة، انطوى هذا الأخير على تكاليف مخفية باهظة. فحركة البناء في طرابلس مزدهرة وأسواقها تعج بالبضائع، لكن بالنظر إلى أن ليبيا أنتجت كميات وافرة من النفط منذ عام 1961 وأن إنتاجها واحتياطيها للفرد الواحد يعادل إنتاج السعودية واحتياطيها، فقد فشلت فشلاً ذريعاً في تحسين عيش سكانها البالغ عددهم ستة ملايين نسمة كما ينبغي. من ناحية أخرى، لاتزال البنية التحتية المادية والمؤسساتية في ليبيا مزعزعة. يعيش معظم الليبيين ميسوري الحال بما يكفي، معتمدين على الخدمات العامة المجانية للتعويض عن أجورهم المنخفضة، لكن القلة القليلة فقط غنية، ولا أحد يتمتع بحرية فعلية.

يتمثل السبب الرئيس وراء سوء أداء ليبيا في طبيعة حكومتها النزوية؛ تقول هذه الأخيرة إنها تتوق إلى تشجيع السياحة والاستثمارات الخاصة مثلاً، لكن منع السفر المفاجئ الذي فرضته على الأوروبيين انعكس على المصدر الأكبر لها في هذين القطاعين. باتت ليبيا عصرية كوجهة للسياح المتكلّفين وقد توقعت موسماً شتوياً حافلاً، لكن فنادقها الفاخرة ومطاعمها المتوسطة الجودة القليلة العدد والمبعثرة ظلت خاوية إلى حد كبير. كذلك لم يحضر كثيرون مؤتمرات الاستثمار التي يُروّج لها على نطاق واسع، وحيث كان يُفترض أن يعرض الوزراء إصلاحات مقترحة ويتفاخروا بقدرة ليبيا. قد يكون الليبيون الذين يتأثرون بالشعارات الشعبوية فرحوا بالخلاف حول تأشيرات السفر، لكن الأثر الأكبر لذلك كان تعزيز الانطباع بأن ليبيا مكان خطر على السياح أو رجال الأعمال على حد سواء.

إن مثل هذا الضرر الذي ألحقته ليبيا بنفسها ليس عرضياً أو محصوراً بالسياسة العليا. خذوا على سبيل المثال أحد المصريين الذي أمضى حياته في ليبيا يؤسس لعمل مزدهر في بقالة، من ثم أخطأ بالعودة إلى وطنه في العطلة، بيد أنه لم يعد باستطاعته العودة إلى ليبيا نظراً إلى التغييرات التي طرأت فجأة على تأشيرات السفر. وفي وقت سابق من هذا العام، طرد مدير جديد لأحد الفنادق في طرابلس، وهو من المغتربين، أحد الموظفين واستبدل الجهات الموردة، مما دفع ذلك بأحدهم إلى إجراء اتصال هاتفي، عندئذ كشفت عملية تفتيش صحية مفاجئة لمستودع الفندق عن بعض الأطعمة المنتهية الصلاحية، وأصبح المدير اليوم وراء القضبان.  

أو خذوا مثال شركة النفط الكندية الصغيرة Verenex التي انضمت إلى الشركات المتهافتة على ليبيا في عام 2005 حيث اكتشفت كمية مذهلة من النفط. في مطلع العام الماضي، عرضت إحدى الشركات الصينية شراء Verenex، التي تحتفظ بأصولها في ليبيا، لقاء مبلغ قدره 450 مليون دولار. فأعاق الليبيون تلك الصفقة متذرعين بأسباب فنية، لكنهم وعدوا بمضاهاة السعر، وبعد أشهر من المشاحنة في وزارة النفط، قلّص صندوق الثروة السيادية الليبي عرضه إلى نحو 300 مليون دولار، فوافق المساهمون في Verenex على مضض لأنهم كانوا سيواجهون مشاكل إضافية في ليبيا في حال رفضوا البيع.  

كذلك لم يُستثن أقرب المقربين إلى النظام الليبي على ما يبدو من مثل هذه المخاطر. لطالما دعم نجل القذافي، سيف الإسلام، الأكثر ظهوراً في الإعلام، وبصوت عال قضية الإصلاح، فقد أنشأ منذ بضع سنوات شركة إعلامية أطلقت أول صحيفتين توجهان انتقادات ملطّفة للنظام في ليبيا وأنشأ لاحقاً محطة تلفزيونية فضائية، لكن هذه الوسائل أُسكتت جميعها منذ ذلك الحين.  

مع ذلك، لايزال سيف الإسلام يتمتع بالنفوذ... لقد ساعد في الآونة الأخيرة على ضمان إطلاق سراح 214 أصولياً إسلامياً، أمضى معظمهم عقداً من الزمن أو أكثر وراء القضبان. في المقابل، لايزال حلفاؤه داخل الحكومة، ومن ضمنهم جيل ناشئ من التكنوقراطيين اليافعين، يحضون على الإصلاح. وقد حقق هؤلاء تقدماً حقيقياً في بعض الميادين. ساهمت مراجعة القوانين مثلاً في خفض الضريبة على الشركات إلى النصف، إلى 20%، وضريبة الدخل إلى 10%، وعلاوةً على ذلك، يُفترض بسوق الأوراق المالية الناشئة الإشراف على طرحين أوليين كبيرين للاكتتاب العام هذه السنة، بما فيهما الأسهم الخاصة بخدمات الهاتف الخليوي التي تحقق نجاحاً باهراً في ليبيا، وهكذا تبدو قوانين الاستثمار الليبية جذابة بقدر ما هي في أي مكان آخر.

مع ذلك، يناضل الإصلاحيون لتحقيق أهدافهم، ففي مناسبات غير متوقعة، يكافحون المصالح المتجذرة لنخبة أمنية مدللة ولا تخضع للمحاسبة، من ضمنها ضباط في الجيش وجهاز الاستخبارات، فضلاً عن قادة قبليين وثوريين على صلة وثيقة بمعمر القذافي. يعلّق مدير عربي لإحدى شركات الاستثمار: "يحدث ذلك مراراً وتكراراً. تحصل على الرخص كافة التي تحتاجها للاستثمار في خط الأنابيب ههنا، لكن فجأة يتوقف كل شيء من دون أن تعرف السبب. لا يوجد شفافية البتة". بالنظر إلى خبرته على مدى أربعة عقود في أنحاء المنطقة، يقول إن ليبيا من أصعب الأماكن التي عمل فيها يوماً.

هذا مخز، بحسب المدير عينه، لأن ليبيا قادرة على أن تصبح مركزاً استثمارياَ ضخماً كما دبي، وبالنظر إلى مخزونها المتراكم من الأصول الأجنبية الصافية التي تصل قيمتها إلى نحو 140 مليار دولار والخطط لضخ 150 مليار دولار في البنية التحتية على مدى السنوات الخمس التالية، لا يبدو ذلك بعيد الاحتمال. ما تحتاجه ليبيا على الأرجح أن يشعر القذافي، الذي يبلغ اليوم من العمر 69 عاماً، بأمان أكبر. لعله حينئذ سيسترخي، ويكف عن لعب دور القائد النزوي الذي يستغل عاطفة الناس، ويسمح ببعض القدرة المملة على التوقع كما في سويسرا.